أهذا كل ما تستطيع قوله؟ قالتها في يأس ممزوج بحزن يسكنها.. ثم اشاحت بوجهها بعيدا عن عينيه الحائرتين وسحبت يدا أكثر يأسا منها من بين كفيه ونهضت في ضجر. مط شفتيه وأخرج تنهيدة حارة، ثم ما لبث أن لحق بها وأحاط كتفيها بذراعيه راسما ابتسامة خلابة زادت ملامحه وسامة.. وقال في هدوء: هل لى أن أعرف ما الذي أغضب زوجتى الحبيبة؟ رفعت حاجبيها في دهشة مصطنعة واغتصبت ابتسامة ساخرة قائلة: زوجتك الحبيبة؟ أحقا ما تقول.. أتصدق أنت قولك هذا؟ أتطلق على حبيبتك.. برافو.. أهنئك على هذا التقدم.. لقد استطعت أن تنطق كلمة معسولة بأكملها بعد ثلاث سنوات من الزواج. ثم أطاحت بيديه بعيدا عن كتفيها ولوحت بيدها في وجهه هاتفة في ثورة: لقد مللت تلك الحياة الخالية من المشاعر.. أنت لا تملك القدرة على إسماعى ما يسعدنى من الكلمات مثلما يفعل الرجال مع زوجاتهم.. أنت لا تستطيع إسعادى.. و.... ثم انهارت في بكاء منتحب ارتعد له جسدها وكادت تسقط أرضا، إلا أن يدا حانية انطلقت كالبرق تحتويها وتمنع سقوطها.. حملها «حسام» إلى أقرب أريكة وأرقدها في حرص ثم هدهد خصلات شعرها بأصابعه وقال في نبرة حانية: اهدئي يا «ريم» اهدئي. أغمضت عينين أنهكتهما الدموع وغاصت بجسدها الضئيل في الأريكة وكأنها تود لو ابتلعتها وابتلعت معها حياة أعيتها وأعيت قلبا ذبل نبضه. بينما اطمأن إلى سكونها طبع على جبينها قبلة سريعة خاطفة وقال: ربما تكونين قد مللت تبريراتى.. لكنني أومن بأن الحب الصادق لا يكمن فى الكلمات المعسولة والعبارات البراقة بقدر ما تحمله الأفعال والمواقف وهى أصدق وأكثر خلودا وتأثيرا من الكلمات. أشاحت بوجهها عن تبريره الذى ملت سماعه ولا تستطيع إقناع الأنثى التى تحتلها بحرف منه.. فاستدرك «حسام» هامسا في أذنها: يوما ما ستفهمين كلامى وتؤمنين به. قالها ونهض بعيدا حتى اختفى في إحدى الغرف تاركا خلفه قلبا ينتحب وبابا يفتح عنوة و.... مهلا.. «وبابا يفتح عنوة»؟! نعم.. إن باب الشقة يفتح عنوة.. فلم يشعر أحدهما بمحاولة ذلك اللص التسلل إلى بيتهما بينما كانا منشغلين في حوارهما المعتاد. ها هو ذا الباب يفتح.. ويدلف شبح متشح بالسواد يخفى وجهه خلف لثام من قماش أسود أضفى شيئا من الرعب إلى هيئته. متسللا على أطراف أصابعه يقترب حيث ترقد «ريم»، وتفتح عينيها فجأة فإذا بذلك الشبح الأسود يميل برأسه فوقها.. شهقة أعقبتها بصرخة مدوية ممزوجة باسم «حسام» تطلقها في رعب مرجف... حسااااااام للحظة ظنت أنه لم يسمعها وربما كانت تلك نهايتها فاتسعت حدقتاها في هلع وهى تتشبث بالأريكة للمرة الثانية في تلك الليلة كملاذ وحيد عرفت معنى أن تتمنى ابتلاعها بين أجزائها لتنجو من هذا الهول. لماذا تصرخين يا «ريم»؟ هتف بها في لهفة فزعة.. فأشارت نحو اللص قائلة بصوت مبحوح: اللص.. ثم نظرت إلى حيث يقف وعلتها الدهشة: أين ذهب.. لقد كان يقف هنا... حساااام ضاعت صرختها وسط صوت ارتطام جسد «حسام» بالأرض بينما ألقى اللص بحقيبته التى سدد بها ضربة على رأس «حسام» ليسقط مغشيا عليه. ثم افترش الأرض يبحث بين محتويات حقيبته عن حبل ما لبث أن أخرجه وأخذ يقيد يدي وقدمى «حسام». كأحد أفلام البعد الثالث مر بها ذلك المشهد.. وكنملة سكب فوقها كوب من الماء تكومت فى مكانها وكل خلية في جسدها ترتعد رعبا. لم يلتفت إليها وهو يجول فى أرجاء الشقة يجمع كل ما غلا وخف.. ومع كل خطوة يخطوها تزداد هلعا. أحكم إغلاق حقيبته على غنيمة ليلته ورفعها إلى كتفه متوجها صوب الباب.. التفاتة واحدة منه نحو «ريم» جعلته يغير وجهته.. نظر إلى وجهها ذى الجمال الآخاذ.. ودار برأسه جسدها الضئيل.. فألقى بالحقيبة أرضا وحسم أمره. لا.. أطلقتها وقد فهمت ما تطلقه نظرات عينيه من شهوانية. حاولت أن تنهض من نومتها.. أن تعدو بعيدا.. فكرت أن تتجه نحو النافذة تلقى بنفسها لتنجو من هذا الخنزير حتى لو لقيت حتفها. لكن هيهات.. فقد تسمر جسدها وكأنما أصيبت بالشلل التام.. حسام .. أدركنى .. حسااااااام. صرخت بها بكل ما تملك من قوة ورغبة في أن تنجو.. نظرات رجاء وتوسل ترسلها نحو زوجها.. منقذها الأوحد.. أفق يا حسام.. أفق. لم يمهلها الخنزير فرصة أخرى ليفيق زوجها فقد انهال عليها بحيوانيته. لم تملك سوى الصراخ دفاعا بعد ان قيدها اللص إلى الأريكة.. - رييييييم صوت منقذها ينطلق في لوعة وغضب وهو يرى أمام عينيه ما لم تتخيله أكثر كوابيسه سوادا. حاول النهوض لكن قيودا من الغدر كبلته.. أشاح بناظريه بعيدا عن المشهد وبركان من الغضب والثورة ينفجر في كيانه.. أتلك زوجتى.. يعتدى عليها أمام عيني وأقف مقيدا عاجزا لا أملك من أمرى شيئا؟! أطلق صرخة هادرة اهتزت لها جدران البيت وانتقلت قوتها إلى يديه المقيدتين فأخذ يحركهما بين القيود حتى لان الحبل قليلا فدنا برأسه ورفع يده بما سمحت له الفجوة التى أحدثها بين عقدة القيد.. حتى استطاع أن يلمس العقدة بأسنانه.. لم تمر دقيقتان حتى كان واقفا وقد حرر يديه وقدميه من قيوده.. انطلق كالثور الهائج نحو اللص الذى أصابه الذهول عندما وجده يمسك به ويبعده في عنف عن زوجته ويسدد له لكمة تطرحه أرضا. وبكل ما يحمل من قهر وغضب جالت عينا «حسام» تبحث عن شىء يضرب به ذاك الخنزير.. ثم اتجه نحو النافذة وبقوة لا يدرى كيف اكتسبها خلع الضلفة وانهال بها فوق رأس اللص مرة وثانية وثالثة وعاشرة .. وفى كل مرة يسقط من عينيه مشهد مما حدث لزوجته.. ترك الضلفة التى أغرقتها الدماء وانهار بجانب زوجته التى ألقت بنفسها بين يديه وهى تنتحب. حمدا لله على سلامتك يا بطلي. قالتها وابتسامة تشرق من وجهها لم يرها «حسام» منذ سنين.. فبادلها بابتسامة أكثر إشراقا واحتواها بين ذراعيه قائلا: لولا حبى لك لما صرت بطلا. أطلقت ضحكة طفولية وقالت: حبي؟ أنت تقول كلاما معسولا يا «حسام» . نظر إلى عينيها مباشرة وكأنه يريد أن يصل إلى أعماقهما قائلا: منذ اليوم أعدك أن أغرقك بما تحبين من الكلام و... وضعت يدها فوق شفتيه بحنان ليكف عن الكلام وقالت مبتسمة: وأنا منذ اليوم لا أريد أن أسمع أى كلام فقد آمنت بأن المواقف هى دليل الحب وليس الكلام. عبث بأصابعه بين خصلات شعرها في حنان لم تحسه من قبل وقال وأنا أيضا آمنت بأن من حقك على أن أشعرك بحبي بالكلمات جنبا إلى جنب المواقف.. فكلاهما ضرورى كضرورة الماء والهواء للورد. ثم أردف وقد اتسعت ابتسامته: سوف أفعل ذلك حتى لا تذبلي يا وردتي.