منذ ما يزيد على عقد، اقترحت خطة 'ديلورز' لتوحيد العملة الأوروبية بصفة مبدئية، وحينها تساءل البعض منا ما إذا كان يمكن لثمانية أو 12، أو 15 اقتصاداً أوروبياً مختلفاً بميزانيات متمايزة (وأولويات لتلك الميزانيات)، وموقف مالي وديون قومية، أن تعمل حقاً بعملة موحدة. بعد تقديم خطة 'ديلورز' بعقد من الزمان، جرى إنشاء البنك المركزي الأوروبي، وتوقيع 'ميثاق الاستقرار والنمو' من قبل أعضاء الاتحاد الأوروبي. لم يكن هناك نص على تعديل قيمة العملات المحلية وفقاً للظروف المتغيرة. وكان ذلك يعني، ضمن ما يعني، أنه لن تجرى عمليات تخفيض لقيمة العملات، وهو إجراء كان يُلجأ إليه في السابق في الدول ذات الاقتصادات الضعيفة لتمكينها من التعويض عن مشروعاتها وقوتها العاملة الأقل إنتاجية من خلال التنافس على الأسعار. وهذا هو ما تعنيه العولمة على وجه التحديد، فدول العالم الثالث تتنافس مع الدول المتقدمة التي تمتلك عمالة تتقاضى رواتب جيدة، ولديها استثمارات كثيفة في التقنية والمشروعات العالية الإنتاجية، من خلال دفع أجور لعمالها تقدر بشريحة صغيرة للغاية من قيمة الأجور التي تدفعها الدول المتقدمة المنافسة لعمالها. لقد كان عمال الدول المتقدمة قادرين على المطالبة بمستويات عالية على الدوام من المعيشة. أما الميزة الكبرى التي تمتعت بها حركة التصنيع في دول العالم الثالث، فكانت هي المستويات المنخفضة لمعيشة عمالها، الذين كانوا راضين بالأجور القليلة، ومطيعين، وغير منظمين نقابياً. كان هؤلاء العمال يعيشون حياة يرتفع مستواها على نحو بطيء ومتدرج، غير أن هذا الوضع تغير عندما بدأت ظاهرة العولمة التي أدت إلى تآكل الميزة النسبية التي كانت تتمتع بها الدول المتقدمة بشأن العمالة، وهو ما يجعل المنظومة الاقتصادية العالمية - من وجهة نظر هذه الدول - هشة، بل وتزداد هشاشة على الدوام. وقد سادت هذه الظروف في وقت كان الاتحاد الأوروبي يبذل جهداً متواصلاً من أجل وضع أسعار صرف العملة المتغيرة في إطار علاقة تزداد وثاقة وقرباً على الدوام، تتحول في نهاية المطاف إلى عملة جديدة أطلق عليها اسم 'اليورو'. اعتمد 'اليورو' عام 1999، غير أنه لم يدخل مجال التداول سوى عام 2002. وكان الاعتراض على الاتحاد النقدي الكامل يقوم على حجة فحواها، أن الدول المتوقع انضمامها إلى هذا الاتحاد، تمتلك اقتصادات وشخصيات وطبائع سياسية متنوعة، لدرجة يكاد يكون من الصعب معها إدماجها في مؤسسة واحدة ناشئة عن قرار اقتصادي. لم يبدو لي ذلك في تلك الأيام مجرد رأي، بل مسلمة لا يرقى إليها الشك، أو دعنا نقول حقيقة سياسية. ليس هناك سبب يدعو الاتحاد الأوروبي إلى عدم العمل إذا تجاهل تلك 'المسلمة التي لا يرقى إليها الشك'، خصوصاً إذا استخدم عملة موحدة 'يورو' تحتوي على العملات الخاصة بكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد. فالاتحاد المالي الجديد يمكن أن يتضمن تشكيلة من العملات الوطنية التي تقوم على نحو مرن بمراعاة احتياجات اقتصاداتها الفردية ومواقفها التجارية الخاصة. ويمكن لقيمة مثل تلك العملات أن تتغير بالمقارنة مع 'اليورو'، بالطريقة نفسها التي تتغير بها قيمة 'اليورو' بالنسبة للدولار، والاسترليني وأي عملة من العملات الحرة الأخرى. أما 'اليورو' نفسه، فتتغير قيمته وفق تغير الموقف التجاري للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وجميع تلك الدول أعضاء في الآن ذاته في البنك المركزي الأوروبي. وأثناء كتابتي لهذا المقال، نشر المجلس الأوروبي الذي يرأسه 'هرمان فان رومبوي'، مقترحاً جديداً للإصلاح المالي الأوروبي كما جاء في وثيقة صاغها 'فان رومبوي' نفسه على 'اتحاد نقدي مستمر مع يورو حصري. كما يقوم على تحول النظام النقدي الحالي إلى مجموعة من العملات المتسقة مع بعضها اتساقاً وثيقاً، والمربوطة مع بعضها بعضاً باعتبارها عملة تجارة دولية موحدة، يقوم أعضاؤها على نحو متبادل بضمان إيداعات البنوك، وتوفير تأمين مشترك على الديون، وتخضع لمنظومة تنظيمية تمنع الممارسات التي خلقت الأزمة الحالية، على أن يتوافر لها قدر كاف من المرونة الداخلية كي تكون قادرة على استيعاب نواحي الاختلاف الخاصة بكل دولة. وبالإضافة لذلك يجب أن يكون هناك إطار سياسي متكامل قادر على خلق سياسة مشتركة لمنطقة اليورو، ونمو مستدام، وقدرة تنافسية عالية'. هذه الحجة بسيطة، أو دعنا نقول تبسيطية، وهي في مجالنا هذا إغوائية. حيث تقول إن المستعمرات الأميركية قد اتحدت مع بعضها بعضاً، وفازت بحريتها، وقاتلت من أجل إنشاء البنك الفيدرالي، والقضاء الفيدرالي، والجهاز التنفيذي الفيدرالي القوي، كما تقول إن كل تلك الإجراءات والسياسات قد نجحت كلها في نهاية المطاف، بحيث بات الأميركيون يعيشون في سعادة بعملة موحدة، وولايات مستقلة غنية تتقاسم المزايا والقوة الاقتصادية مع الولايات الفقيرة، وتتمتع باقتصاد قومي، ونظام ضريبي، وميزانية خاصة. الأمر ليس كذلك، فمعظم تلك المستعمرات كانت تتحدث الإنجليزية، وتسودها ثقافة إنجليزية أو أوروبية، وتعليم وديانة كاثوليكية. علاوة على ذلك، فإن الوضع الحالي للولايات المتحدة ليس مثالياً، فهناك السجال السياسي، والانقسام الحزبي، خصوصاً خلال السنة الانتخابية، وهناك القضاء المسيس، والحرب الأهلية على الاختصاصات بين الوزارات والإدارات المختلفة، والميزانيات غير القابلة للتحكم، والدين القومي المتفاقم، والحرب الثقافية داخل الوطن، والحرب الإيديولوجية العدوانية في الخارج. الاتحاد الأوروبي ليس لديه شيء من ذلك، ولا حاجة له في الحقيقة لأي شيء منه.-الاتحاد الاماراتية-