في ما بعد الثورة، يدور الصراع أساسا حول شكل النظام السياسي الجديد، فالعودة إلى الوراء باتت مستحيلة، وإعادة نظام الاستبداد والفساد لم يعد ممكنا، لأن هذا النظام استمر بأكثر مما ينبغي، مما أدى إلى سقوطه. ولكن ما يمكن إنتاجه بعد الثورة، ليس شكلا واحدا من النظم السياسية، ولكن عدة أشكال، لكل منها أنصار. وإذا كان سؤال ما بعد سقوط النظام دار حول دور الإرادة الشعبية الحرة، فإن كل الأسئلة أصبحت تدور حول مدى ما يمكن تحقيقه من تحرير لإرادة الأمة. لهذا بات الصراع يدور بين شكلين من الديمقراطية، أولهما الديمقراطية الشعبية التي تستند أساسا على الرأي العام واختيارات عامة الناس، وثانيهما الديمقراطية النخبوية، والتي تقوم فيها النخبة باحتكار الوظيفة السياسية العامة، ويختار الناس بين النخب المعروضة عليهم. والديمقراطية الشعبية تعتمد أساسا على القيادات الشعبية، أي على القيادات الطبيعية للأمة، والتي تظهر طبقا لقواعد الاختيار التلقائي الشعبي. أما الديمقراطية النخبوية فتعتمد أساسا على مجموعات ذات وضع طبقي متميز، تقوم بوظائف سياسية وثقافية وإعلامية، وتعتبر نفسها أهل الاختصاص في القيام بالوظائف السياسية العامة. المشكلة إذن تدور بين دور نخبة تتصدر المشهد الاجتماعي، ودور قيادة تختار شعبيا. والديمقراطية النخبوية تؤدي إلى مسار لا يقوم أساسا على الرأي العام، بل يوفق فقط بين خيارات الرأي العام، واختيارات النخبة التي تعتقد أنها القادرة على قيادة النظام السياسي. أما الديمقراطية الشعبية فتقوم أساسا وحصريا على خيارات الرأي العام، مما يجعل الرأي العام هو الحاكم الفعلي، وتجعل عامة الناس أصحاب القرار الحقيقي ومصدر السلطة الحقيقية. وبين ديمقراطية تقودها النخبة، وديمقراطية يقودها عامة الناس، تبدأ مراحل الصراع بين الأطراف الفاعلة في مشهد ما بعد الثورة، أي التيار الإسلامي والنخبة العلمانية ونخبة الدولة. وتتكرر نفس المفارقة التاريخية، فالقوى التي شاركت في الثورة، لم تحلم نفس الحلم، بل تعددت أحلامها، وبالتالي اختلفت حول النظام السياسي الجديد. فالنخب والمجموعات العلمانية تميل إلى الديمقراطية النخبوية، والتيار الإسلامي يميل للديمقراطية الشعبية، ونخبة الدولة التي لا تميل أساسا للديمقراطية، يمكن أن تقبل الديمقراطية النخبوية، ولكنها لن تقبل بالديمقراطية الشعبية. لذا تتغير مواضع القوى المشاركة في الثورة، وتجد النخب العلمانية نفسها في صف الدولة العميقة التي تمثل النظام الحاكم الذي قامت الثورة عليه. ولأن الثورة شعبية في الأساس، ولأن خيار التيار الإسلامي يميل للديمقراطية الشعبية، لذا يصبح التيار الإسلامي الأقوى شعبيا، ولا تجد النخبة العلمانية إلا سلطة نخبة الدولة لتستند إليها. وكأن عدة عوامل تدفع في نفس الاتجاه، مما يجعل تحول الصراع الثلاثي إلى صراع ثنائي أمر حتمي في نهاية المطاف. فالمواجهة بدأت بين القوى الثلاث، أي التيار الإسلامي والنخب والمجموعات العلمانية ونخبة الدولة، ولكنها تنتهي في مواجهة ثنائية بين نخب الدولة والعلمانية من جانب، والتيار الإسلامي من جانب آخر. ولكن مسار التحولات التاريخية يسير في النهاية حسب تشكل الإرادة الشعبية. فمن الملاحظ أن الخروج الشعبي الكبير، لم يكن على النظام الحاكم فقط، بل كان أيضا على الدولة، مما يجعل الثورة في النهاية هي عملية تحرر شعبي. وهو ما يجعل أي نموذج للحكم، لا يجعل الرأي العام هو الفاعل الرئيس في العملية السياسية سوف يفشل. والظاهر أن حركة الاحتجاج الشعبي المستمر بدءا من أيام الثورة الأولى، والممتدة بعدها بتمادي واضح، تشير ضمنا إلى محاولة فرض عامة الناس لرأيهم على أي سلطة. ومن خلال عملية فرض إذعان السلطة للرأي العام ولعامة الناس، يتقلص مفهوم السلطة نفسه وتتقلص حدوده، مما يجعل هيبة السلطة تتراجع، أمام التمرد المستمر لعامة الناس. ومع هذه العملية المتواصلة، يستحيل بناء ديمقراطية نخبوية. مما يجعل الخيار النهائي هو خيار عامة الناس، وخيار التيار السائد في المجتمع، ذو التوجه الإسلامي. لهذا فلا يمكن تأسيس النظام السياسي الذي يريده عامة الناس، إلا بعد تقويض دعائم السلطة والنفوذ لكل الأطراف التي تواجه الخيارات الشعبية، بما في ذلك نخبة الدولة والنخبة العلمانية، بل والقوى الخارجية أيضا. وهو ما يزيد من عمق مرحلة الفوضى، ومرحلة الاستنزاف المستمر بعد الثورة، لأن عامة الناس ترفض ضمنا، وعن وعي جمعي عميق، أي محاولة لاستعادة السلطة لهيبتها بدون أن تكون خادمة لعامة الناس ومعبرة عنهم. وهو ما يجعلنا نرى أن التمرد على الدولة، هو بالفعل الثورة العميقة، والتي تشكل النتائج النهاية للثورة، حتى وإن تأخرت. لا عودة للوراء استحالة العودة إلى نظام الاستبداد والفساد تبدو جلية من حجم الاحتجاج المجتمعي الواسع ضد السلطة، حتى تبدو الفوضى بديلا عن عودة النظام السابق. وإذا كانت قوى النظام السابق ونخبة الدولة قد حاولت التلويح مرارا بمبادلة الحرية والعدل مقابل الأمن، فإن التصرفات الشائعة لدى عامة الناس، في ما يقترب من حالة الانفلات الشعبي، مثلت نموذجا لحالة الرفض الشعبي الواسع تجاه عودة الاستبداد مرة أخرى. فقد يميل العامة نحو الاستقرار والأمن، ولكن ذلك لا يعني أنه يمكن مقايضة الأمن مع الحرية والعدل مرة أخرى. والناظر إلى الممارسة الديمقراطية الواسعة في مصر، والتي ظهرت في حجم المشاركة في الانتخابات، يدرك أن ممارسة الشعب لسلطته، تحصنه ضد تقديم أي تنازل جديد لأي سلطة حاكمة، بل إن ممارسات نخبة الدولة نفسها في المرحلة الانتقالية، أكدت أن عودة الاستبداد غير ممكنة، فكل تصرفات نخبة الدولة دارت في إطار التدخل الناعم في مسار التحول الديمقراطي، حيث بات التدخل الخشن غير متاح. والمتابع لأوضاع النظام السابق، يدرك أن التدخل الناعم وقتي وغير كافي، وأن النظم المستبدة لا تبقى إلا بالتدخل الخشن المستمر والمتمادي. معنى هذا أن الأشكال المختلفة لمحاولة استعادة النظام السابق، ليست في حقيقتها استعادة له، بقدر ما هي ممانعة تجاه التحولات الجديدة، وهي ممانعة خجولة، تبحث عن الأعذار والمبررات، لأنها محاولات مرفوضة شعبيا. وهذا ما جعل نخبة الدولة تحاول مسايرة الحماس الثوري، وحتى وسائل إعلام النظام السابق ركبت موجة الحماس الثوري، فأصبح كل تدخل في مسار العملية الديمقراطية يتم تغطيته بغطاء من المبررات الثورية. وهو ما يؤكد على أن التغيير والإصلاح أصبحا المطلب الذي لا يمكن الخروج عنه. مما يجعل كل الأطراف التي تحاول التدخل ضد الإرادة الشعبية، تبحث عن المبررات المقبولة شعبيا. ولأن العامة في النهاية تعرف خيارتها، فما يمكن أن تقبله مؤقتا، لن تقبله بعد ذلك، وسوف تصبح النتائج هي الحكم النهائي على أي مغالطات أو تضليل سياسي أو إعلامي. وقد بات واضحا أن عامة الناس لديها وعيها الخاص، والمنفصل عن ما تروجه النخب ووسائل الإعلام، خاصة العلمانية منها، حتى لو تأثرت بما يروجه الإعلام مرحليا. مما يؤكد على أن محاولات فرض ديمقراطية نخبوية لا يمكن أن تنجح، دون فرض سطوة الدولة مرة أخرى، ولأن هيبة الدولة سقطت بالفعل، يصبح استعادة هيبة الاستبداد أمرا مستبعدا. وكل ما يحدث في الواقع، يتعلق أساسا بالسلوك الجمعي والقرار الجمعي والوعي الجمعي، فمجمل توجهات التيار السائد في المجتمع، والذي حقق الثورة واسقط النظام، باتت الرقم الصعب في المعادلة السياسية المستقبلية. دستور شعبي! رغم المعارك السياسية الطاحنة التي أعقبت الثورة، ورغم المواجهات المفتوحة بين التيار الإسلامي وكل من نخبة الدولة والنخبة العلمانية، إلا أن الصانع الحقيقي للمعادلة يبقى في النهاية عامة الناس. فالثورة بدأت تاريخا يكتبه عامة الناس، بأكثر مما تكتبه السلطة أو النخبة. لذلك كانت معركة وضع الدستور الجديد في مصر لها دلالة خاصة. فعبر التاريخ المعاصر، كانت الثورات تنتهي بدستور تكتبه النخبة والسلطة معا، ثم أصبحت السلطة تنفرد بكتابة الدستور أو تعديله، فجاءت الثورة لتحمل معها محاولة أن يكتب الشعب دستوره. وحمل تلك المهمة التيار الإسلامي، ممثلا في تنظيماته وأحزابه. وهو ما مثل بداية لتغير تاريخي كبير، يؤدي إلى تراجع دور السلطة والنخبة لصالح دور عامة الناس. لذا تحولت معركة كتابة الدستور المصري الجديد إلى معركة تكسير عظام، لأن خروج الدستور من خلال لجنة منتخبة من البرلمان، وهي قيادات شعبية منتخبة من الشعب، مثل تحولا تاريخيا جوهريا، ينهي بالفعل هيمنة النخب، خاصة النخب العلمانية، على العملية السياسية، ويفتح الباب أمام دور مؤثر للقيادة أو النخب الشعبية، وبالتالي دور محوري للرأي العام في العملية السياسية. كما أن كتابة دستور من خلال قيادات منتخبة شعبيا، يعني أنه الدستور الأول الذي يمنحه الشعب لنفسه، وبهذا يصبح الشعب هو من صنع ثورته، وهو من صنع دستوره، فتسقط فكرة وجود نخبة لها شرعية للقيام بدور قيادي، بدون اختيار شعبي مباشر. والفارق بين الديمقراطية الشعبية والديمقراطية النخبوية لا يقف عند حد ممارسة العملية السياسية، ولكنه يفتح الباب أمام معركة مهمة في التاريخ المصري المعاصر، لأنه يفتح الباب أمام عملية تدوير النخبة، سواء بشكل عام أو داخل المؤسسات العامة والمؤسسات الإعلامية، وتلك مرحلة تعقب انتصار فكرة الديمقراطية الشعبية، فتتعرض النخب التي احتلت تلك المكانة زمن النظام السابق، وتلك التي حاولت أن تكون نخبة الثورة، لعملية متدرجة وربما حادة أحيانا، لتغييرها وإحلال نخبة أخرى أو طليعة شعبية مكانها، بحيث تكون النخبة أو الطليعة ممثلة لرموز حازت على القبول الشعبي، وليست فئة أو طبقة استطاعت أن تحوز على مواقع الوجاهة والمكانة بسبب علاقاتها بالسلطة أو شبكة علاقاتها الخاصة أو مهارتها الفردية. وعندما تتغير مكانة السلطة ومكانة النخبة، تحدث تحولات كبيرة في مفهوم السلطة، وفي دور الدولة وكذلك في دور المجتمع. وتلك التحولات تمثل التغيير الأكثر عمقا في بنية الدولة، وتعد من نتائج حالة التمرد الشعبي على الدولة، لأن حالة التمرد تعبر في النهاية عن رغبة في بناء نظام سياسي جديد ودولة جديدة.