جاءني السؤال التالي من أحد الطلاب: لماذا إذا عددنا الأحاديث التي رواها كل من أبي بكر وعمر وحتى عليّ -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- وجدناها قليلة بالمقارنة مع ما رواه الآخرون، بالرغم من أنَّ حياة الصحابة المذكورين كانت لصيقة أشد ما تكون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ألم يصلهم قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم:3-4) أم أنَّ لديهم مفهومًا للوحي يختلف عما وصلنا؟ بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته تساؤلك في محله أخي الكريم، وقد أثير قديمًا وحديثًا، ولكن الجواب الصحيح أنَّ أبا بكر وعمر وعلي وعائشة وآخرين -رضي الله عنهم أجمعين- كانوا يلجؤون إلى الكتاب الكريم، ويبحثون عن حلول المشكلات في آياته الكريمة، ويجدون دائمًا ما يبحثون عنه فيه، فيعالجون المشكلات المستجدة بذات المنهج الذي سلكه رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وهو البحث عن العلاج في القرآن، وقد ينتظر -عليه الصلاة والسلام- أسابيع حتى ينزل عليه في الأمر كتاب، فمن ذكرتهم متبعون لنهج رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وأخذوا بالنهي الوارد منه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- عن الإكثار من الرواية أو كتابة شيء غير القرآن أو اللجوء إلى شيء غيره قبل أن يستقرئوا آياته الكريمة. وكثيرة تلك الأحاديث التي ردّها الشيخان أبو بكر وعمر -رضوان الله عليهما- لأنَّهم وجدوا فيها ما يخالف ظاهر القرآن أو عمومه، بما في ذلك روايات رواها صحابة وقعت لهم تلك الوقائع، وتجد ذلك كثيرًا في قضايا الديَّات وقضيَّة النفقة في قصة فاطمة بنت قيس، فقد ردّ -بشدة- سيدنا عمر حديث الضبابي في قضيَّة ديَّة، كما ردّ حديث فاطمة بنت قيس بعدم جعل نفقة أو سكنى لها في عدتها، وقال قولًا شديدًا في أولئك الناس، وكان -رضي الله عنه- وقبله سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- حينما يبعثون البعوث إلى الخارج يوصونهم بإقلال الرواية عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وتعليم الناس القرآن وربطهم به، ولا يحمل ذلك تجاهلًا لسنَّة المصطفى -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وهم أعلم الناس بها، ولكنَّهم أرادوا أن يعلّموا الناس الأولويَّات والأدوار المتناسقة بمنتهى الدقة. فالسنَّة النبويَّة فيما فهمناه من سيرة الشيخين وعلي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة وغيرهم من فقهاء الصحابة وقرّائهم وأئمتهم هي تطبيقات للقرآن الكريم، والرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- كان يتلو على الناس آيات الله ويعلمهم ما فيها من معان ودروس ودلالات، وينبّه إلى الحِكَم الموجودة فيها، ويقوم بتفعيلها وتطبيقها ليتبعوه في ذلك كلّه بناء على قوله جلّ شأنه: ﴿....إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..﴾ (الأنعام:57)، ولرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- تطبيق ما يوحى إليه واتّباعه وتعليم الناس كيف يكون التطبيق والاتباع لآيات الكتاب الكريم، وهذه التطبيقات تطبيقات معصوم -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- حين لا تكون دقيقة كثيرًا ما يستدرك القرآن عليها، وهناك كتب عُنيت بدراسة استدراكات القرآن الكريم على بعض مواقف رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- في مثل قضيَّة الأسرى، وقضيَّة المنافقين، وقضايا أخرى. ولأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- استدراكات جمعها الإمام الزركشي صاحب البحر «المحيط في أصول الفقه»، و«البرهان في علوم القرآن»، وغيرهما جمع استدراكات عائشة في كتاب مطبوع ومنشور عنوانه «الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة»، واطلاعك على ذلك كلّه يجعلك تدرك عدم وجود تناقض أو صراع، وليس هناك تقليل من أهميَّة السنَّة، فالسنَّة إلى جانب الكتاب تقدم لنا مناهج الفهم والتطبيق، وكيفيَّة تفعيل ما جاء القرآن به في الواقع؛ ولذلك فحين سئلت أم المؤمنين عائشة عن خُلق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- قالت: "كان خلقه القرآن"، والحديث -وإن قال البعض في إسناده شيئًا- فإنَّ معناه صحيح جدًّا، فذلك دور السنَّة النبويَّة المطهرة إلى جانب القرآن الكريم: اتباع وتطبيق وتفعيل وبيان مناهج العمل، وذلك نوع من البيان العالي لكتاب الله جلّ شأنه. أمَّا هذه المعارك الموجودة في عصرنا هذا المفتعلة بين ما يزعمون أنَّه تقديم للسنَّة على الكتاب أو للكتاب على السنَّة وتفريق بين الله ورسوله وبين ما أوحى الله إلى رسوله من ضرورة اتباع ما أنزل عليه من كتاب كاف شاف لو تمسك المسلمون به لن يضلوا أبدًا ولكن بمنهج رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- في التمسك بالكتاب وتطبيقه، لو فعلوا ذلك وفهموا هذا الذي قلنا لما سمعنا كثيرًا من هذه المعارك المفتعلة التي تموج فيها الساحة الإسلاميَّة اليوم، وفقنا وإياك أخي الكريم لما يحبه ويرضاه، ونفعنا بكتاب الله، وبسنَّة رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وهدانا سواء السبيل.