عند الحديث عن قضية التحرش كظاهرة مؤرقة باتت تهدد الأمان الاجتماعي في بلادنا، تبرز واحدة من أكبر أزماتنا في التفكير وهي خلط الأوراق، والميل إلى حلول سريعة وجاهزة، والتسطيح الشديد للأمور. وهناك فريقان رئيسيان يعقّدان ظاهرة التحرش باختزالهما لأسبابها وطريقة حلها. الفريق الأول: المرأة عنده ملامة على الدوام، والشباب هم مجموعة من المساكين الذين يتحملون في هذا الزمان ما لا يطيقون. وإذا اضطروا لذكر أخطاء الذكران من العالمين، فمن باب أنهم فشلوا في التمسك بالورع والتقوى، ولم يبلغوا ذورة العفاف.. وكأن التحرش واتباع خطوات الشيطان هو التصرف الطبيعي والمبرر أمام أي استدعاء للشهوة. ويستشهد هذا الفريق بنصوص صحيحة في ثبوتها ولكن المشكلة في وجه الاستدلال، فهم يغفلون عن أن الاحاديث والآثار عن فتنة النساء جاءت للتحذير من السقوط والتدني، وحاشاها أن تكون للتبرير. الفريق الثاني: المرأة عندهم مبرأة براءة مذهلة، لا تثريب عليها ولا لوم ولا توجيه.. من حقها أن تفعل ما تشاء، ترتدي ما تشاء في أي وقت تشاء، فهذه هي الحرية المقدسة التي لا يجوز المساس بها ولا الاقتراب، بل ولا النصح أو التوجيه. مشكلة هذا الفريق هو أنه يظن – في هذه القضية وغيرها- أن التنظير المنبت الصلة بالواقع يصمد على الأرض، والحقيقة أن الحديث عن الحرية مهما كان جميلا فإنه إذا انفصل عن إدراك واقع الناس، وطبيعة حياتهم، وثقافتهم وأعرافهم، كان مجرد تمتمة في الفضاء الواسع لا يتأثر به إلا قائلوه. تصور أعور: الأمر بالعفة خاص للمرأة! الفريق الأول يختزل سبب التحرش في مظهر النساء والفتيات، فيصدمهم الواقع بتعرض المحجبة والمنتقبة للتحرش. والحقيقة أن هذا الفريق يساهم في نشر هذه الظاهرة القبيحة، لأنه يخالف المنهج الإسلامي الذي يُسوي بين الرجل والمرأة في الأمر بالعفة، والمتأمل للأوامر الربانية والتوجيهات النبوية يدرك بشكل يقيني المساواة في المدح لأهل العفة رجالا ونساءً، والتسوية كذلك في العقوبة والمذمة لمن حاد عن طريقها. فالأمر بغض البصر مشترك، والأمر بالحجاب للمرأة يقابله أمر للرجل بإعطاء الطريق حقه، وعدم الجلوس على الطرقات، كما أن عقوبة الزنى واحدة، والإثم واحد. هذا الفريق من الناس – وهو منتشر- يربي أبناءه بطريقة مشوهة، يضيق على البنت، ولا يأبه لسلوك الولد، يسلط ال"عيب" الاجتماعي الذي يشمئز من خطأ الفتاة، وينشرح لتفلت الشاب، يُنزل بالبنت أشد العقاب إذا سمحت لنفسها أن ترافق شابًا، وإذا رافق الابن فتاة – هي ابنة لأناس آخرين!- لا يُلام مطلقًا، وربما تلقى دعابة من الأب، فالأسرة والمجتمع يقيمان الأمر تقييما مزدوجا متناقضًا، وذلك للغفلة عن المعيار الشرعي الثابت. فالصبيان – من صغرهم- يرون ويسمعون وينغرس في وجدانهم حالة التسامح الاجتماعي تجاه انفلات الذكور الاخلاقي، ورخصة الخطأ والخطيئة ( غدًا يكبرون ويعقلون)..فلا يشعرون بكبير تأثم للتحرش اللفظي أو الجسدي إذا سنحت فرصته ولاحت. معاندة الفطرة والمنهج الربَّاني أما الفريق الثاني فله عجائبه أيضا، وقد قرأت تشبيها لهم ردًا على الفريق الأول، وإعفاءًا كاملا لمظهر الفتيات، ومفاد هذا التشبيه أن من يلوم المرأة على إظهارها لمفاتنها بأنها تستجلب المتحرشين، فعليه أن يلوم البنك الذي يتعرض للسرقة لأن به أموالا طائلة، ويبرر للّص السرقة لأنه لم يقاوم الإغراء! وهذا تشبيه في غاية الغرابة في الحقيقة، لأن البنك الذي لا يؤمّن نفسه بشكل كافٍ يتعرض للوم، ولومه على تفريطه في حماية نفسه وأموال مودعيه، لا يعني التبرير للصوص. وأزمة هؤلاء في تجاهل النصوص الشرعية التي تأمر بالحجاب، وتجاوز الحقائق الواقعية ليست في العالم العربي وحده، بل وفي العالم الغربي أيضًا، الذي لم تمنعه قوانينه الرادعة من جرائم التحرش البشعة وشديدة الشذوذ والانتشار، لغياب الاهتمام بالأخلاق، وضعف النصح الاجتماعي. إنهم يختزلون الحل في القوانين، ويعاندون سنة الله في خلقه، وطبيعة البشر، والمنهج الذي وضعه أحكم الحاكمين لخلقه.. فتغييبهم للحدود بين المنكر والمعروف، بين الطيب والخبيث، بين الصواب والخطأ بدافع الحرية، أوقع المجتمع – والمرأة بالذات- في سلب حريتها وكرامتها، فباتت تسير في الطريق لا تأمن على نفسها من كلمة نابية، أو تصرف أرعن من أحد الحمقى. هم شركاء في الجريمة – مثل الفريق الأول- لأنهم يساهمون بعناد في منع استقامة المجتمع ككل، لما يصرون عليه من تهوين القيم الرفيعة في النفوس، مثل: الاحتشام، والحياء، والاستعفاف، وإلغاء مفهوم الصواب والحق من العقول لصالح النسبية الغربية المطلقة سيئة العواقب! مقترحات لمقاومة الظاهرة وبعيدًا عمّا يقوم به الفريقان الرئيسيان المتصارعان في مجتمعاتنا، فهذه بعض الأسس المقترحة لمقاومة ظاهرة التحرش: 1- الإنكار المجتمعي: التحرش – في رأيي- هو نتيجة لحالة مركبة، تتضافر فيها عوامل عديدة، وهي حالة "إشاعة الفاحشة"، ومواجهة هذه الحالة بفعالية ينبغي ألا تقتصر على عامل دون آخر، فالتوجيه المجتمعي في البيوت والشوارع والمدارس والجامعات، وفي أروقة الإنترنت، ودروب الثقافة والرأي كما يوجه للحجاب والاحتشام، عليه أن يوجه أيضًا للرقي والاستعفاف وضبط النفس وصيانتها. 2- القوانين الصارمة: لابد من القوانين الصارمة التي تعاقب على جريمة التحرش، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. 3- التربية الصحيحة: من السهل أن تؤمر الفتاة بالحجاب، ولكن الجوهر دائما هو الأهم والأعظم أثرًا، الجوهر هو الحياء، هو أن تستشعر الفتاة كرامتها فلا تقبل أبدًا أن يكون خروجها طلبًا لنظرات جائعة، أو كلمات تثني على مفاتنها، فإذا تربت على هذا النحو كان حجابها حماية حقيقية. فالمشاهد أن الحجاب كثيرا ما يتحول إلى قطعة ديكورية، وأن من الفتيات من يستجدين المعاكسات بالسلوك المتميع، رغم الحجاب أو النقاب أحيانًا. على الجانب الآخر يجب أن يربى الولد منذ صغره على احترام المرأة، فمن منطلقات التحرش الشعور بامتهان المرأة وأنها مجرد لعبة أو مخلوق للتسلية والترفيه، وليست شريكة حياة وشقيقة في جميع محاور الحياة. وأن يربى على الحياء – فالحياء من الإيمان- وهو صيانة النفس، أو بالتعبير العصري "احترام النفس".. 4- استعادة الحس الاجتماعي السليم: المنع والقمع لا يجدي في مقاومة التردي في الفكر والأدب والفنون، وبخاصة في عصر ثورة الاتصالات، ولكن المجدي هو إعادة الذوق السليم، إنها رسالة مجتمعية، وعمل تربوي يقع على عاتق المربين والفنانين والأدباء والمصلحين. والله أسأل أن يملأ بلاد المسلمين أمنًا تراحمًا، وأن حفظ شبابا وفتياتها من كل سوء وسفول، ويعين رجالها ونساءها على الاستقامة والطهر.