فى مقال له بعنوان "إنهيار الولاياتالمتحدة: الأسباب و النتائج" نُشر في أغسطس الماضى (2011)، يتحدث نعوم تشومسكى – المفكر و الفيلسوف الأمريكى الشهير– عن وضع الولاياتالمتحدةالأمريكية الحالى و أسباب اهتزاز مكانتها العالمية التى ظلت تشغلها على مدى عقود طويلة على أنها القوة العالمية الأولى و المتحكم الرئيسى فى مجريات الأمور و المنظم لشكل السياسات العالمية نظراً للعديد من المشاكل الداخلية و الخارجية التى هددت الاستقرار الأمريكى و المكانة التى تبوأتها على قمة الهرم العالمى. إلا أن هذا المقال لا يعد هو الأول الذى يتناول فيه تشومسكى السياسات الأمريكية و يلقى الضوء على إرهاصات الإنهيار الأمريكى، فقد سبقه مقال آخر تناول فيه تشومسكى الفكرة ذاتها، و لكننا نقع فى المقال الذى بين أيدينا على أهم تلك الأفكار و أبرزها و التى تمّ عرضها فى مقاله السابق، وقد ألحق تشومسكى بهذا المقال مقالين آخرين يتناولان بالتحليل و التدليل علامات أفول نجم الولاياتالمتحدة و تزعزع استقرارها و مكانتها العالمية و المحلية، و سوف نشير إلى هذين المقالين و نعرضهما بالتفصيل خلال مقال لاحق لنا إن شاء الرحمن، ثم ننهى هذه السلسلة بمقال أخير نستعرض فيه الوضع الأمريكى من خلال كتابات مجموعة من الكتاب البارزين و لنرى مدى اتفاقهم مع فكرة انهيار الولاياتالمتحدة علّنا نخرج من ذلك برؤية تبين لنا مجريات الأمور و لنكون فى هذه الأوقات المصيرية التى تمر بها مصر و الأمة العربية على علم بما يجرى على مائدة السياسة العالمية و ما يدور فى أروقتها.. يستهل تشومسكى مقاله قائلا أن ثمة اعتقاد عام و منتشر على نطاقات واسعة مفاده أن إرهاصات الاضمحلال الأمريكى آخذة فى الإزدياد يوما بعد يوم، و أن شمس الولاياتالمتحدة التى ظلت ساطعة فى كبد السياسة العالمية أخذت تميل نحو الغروب بإيقاع يتسارع يوما بعد الآخر، و تجلّت أولى سمات هذا التراجع بعد الحرب العالمية الثانية، فبعد أن بلغت الولاياتالمتحدة أوج قوتها و عنفوان سطوتها مع بدايات الحرب العالمية الثانية، إذ بنا نجد المنحى الصاعد أخذ يميل للهبوط مع انتهاء الحرب، و يرى تشومسكى أن الخطابات الرنانة و الخطب العنترية التى كان يطالعنا بها الساسة الأمريكيون خلال فترة التسعينيات عن الروح الانتصارية و الفتوحات الأمريكية لم تكن سوى ضربا من خداع الذات (الذات الأمريكية فى هذه الحالة .. و خداع الآخر العربى)، و يشكك تشومسكى فى التنبؤات التى ترى أن الصين و الهند تهددان مكانة الولاياتالمتحدة نظرا لما تعانيه هاتان الدولتان من العديد من المشكلات المحلية على رأسها مشكلة الفقر، فرغم هبوط الولاياتالمتحدة و صعود الصين و الهند فإنه يستبعد أن تتمكن هاتان الدولتان من تبوأ المكانة التى تشغلها أمريكا حاليا، بل إنه ليس ثمة قوة أخرى يمكننا أن نجزم بأنها الوريث الشرعى للولايات المتحدة باعتبارها القوة الأولى فى العالم. تمثلت الخطة التى وضعها القادة الأمريكيون فى أعقاب الحرب العالمية الثانية لإحكام الهيمنة على العالم فى كافة المجالات فى السعى الحثيث للسيطرة على ما سُمّى بالمنطقة العظمى – أو المشروع الأمريكى – و التى كان من المفترض أن تشمل نصف الكرة الأرضية حيث تقع أوربا، ومنطقة الشرق الأقصى،والأراضى التى خضعت للاحتلال الإنجليزى أيام امبراطوريته العتيدة بما فيها منطقة الشرق الأوسط لما تحفل به من ثروات بترولية، بجانب بعض الأراضى الأوراسية (الأروبية الآسيوية) أو على أقل تقدير السيطرة على المناطق الصناعية الأسياسية بغرب أوربا وجنوبها، و تمثل هذه المناطق أهمية قصوى فى إحكام السيطرة على مصادر الطاقة الشرق أوسطية، بما يحقق للولايات المتحدة السيادة الاقتصادية و العسكرية التامة بلا منازع، هذا بجانب العمل على تقليم أظافر أى دولة تحاول أن تصل إلى مستوى مواز لهذه القوة أو تسعى على الأقل إلى التدخل فى هذا التصميم العالمى الذى وضعت أسسه الولاياتالمتحدة، ولا زال هذا التصميم قائما فى مخيلة الساسة الأمريكيين منذ ذلك الوقت مع حدوث تغيرات طفيفة فى بعض الجوانب. "إن قوات حلف شمال الأطلسى (الناتو) أصبحت بمثابة قوة تدخل عالمية تحت قيادة الولاياتالمتحدة، و أضحت مهمتها الرسمية والأساسية هى التحكم فى نظام الطاقة العالمى، والممرات البحرية،وخطوط أنابيب البترول و الغاز، و أى شئ من شأنه تعزيز الهيمنة الأمريكية" هكذا يعلق تشومسكى على نشاط قوات الناتو موضحا الطرق التى سلكتها الولاياتالمتحدة تحت غطاء الشرعية لتنفيذ مخططها، و يوضح تشومكسى أنه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية استطاعت أمريكا الخلاص من فترة الكساد العظيم و تضاعفت على إثر ذلك الطاقات الصناعية الأمريكية، وتم توزيع الأدوار المختلفة على الدول بما يتفق مع النظام العالمى الذى صممته الولاياتالمتحدة، و لكن مع حلول عام 1949م انكمشت مساحة "المنطقة العظمى" مع خروج الصين من دائرة الحسابات الأمريكية، ثم توالى مسلسل الانكماش و التراجع بعد أن تخلخل نفوذ الولاياتالمتحدة فى منطقة جنوب شرق آسيا، و هذا ما حدا بالولاياتالمتحدة إلى رد فعل عنيف حيث قامت القوات الأمريكية بشن حروب بشعة فى منطقة الهند الصينية،وارتكاب مذابح فى أندونسيا عام 1965م، بالإضافة إلى التورط فى أعمال عنف عديدة فى مناطق متفرقة من العالم من أجل استعادة المكانة التى تزعزعت و من أجل الحفاظ على "الاستقرار" على النحو الذى يتلاءم مع مصالح الولاياتالمتحدة و ينسجم مع رؤيتها. ورغم هذه المحاولات الحثيثة لاسترداد الوضع القديم فإن تشومسكى يعرض لنا أن ضعف الولاياتالمتحدة و علامات انهيارها كانت شيئا لا مفر منه، فمع حلول عام 1970م قلَّ نصيب الثروة الأمريكية من حصة الثروة العالمية بشكل كبير، هذا بجانب أن العالم الصناعى أصبح مرتكزا منذ ذلك الوقت على ثلاثة أقطاب رئيسية تتنازعه هى أمريكا و أوربا و آسيا (و بخاصة فى اليابان)، و مع انهيار الاتحاد السوفييتى بعد ذلك بنحو عشرين عاما فإن سياسة الولاياتالمتحدة لم تتغير عنها خلال الحرب الباردة، و صرحت إدارة الرئيس جورج بوش الأب أن سباق التسلح يجب أن يستمر بحجة مواجهة التقدم التكنولوجى لدى بعض قوى العالم الثالث، و كذلك لمقاومة ما اسمته الإدارة الأمريكية ب"القومية الراديكالية" و التى من شأنها أن تقوم بعمليات تحررية واستقلالية بما يتعارض مع المشروع الأمريكىّ. وقد قوبلت سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما بعد وخلال حكم إدارة الرئيس كلينتون بهجوم على الشعار الذى رفعته هذه الإدارة و الذى كانت تحاول بمقتضاه التدخل فى شئون الدول الأخرى، كان هذا الشعار هو التدخل الإنسانى من أجل حماية الحقوق الإنسانية، أى أن الإدارة الأمريكية قامت بإضفاء صفة شرعية تكتسى برداء حماية حقوق الإنسان لتجد مبررا للتدخل فى سياسات الدول الأخرى، و قد قوبلت هذه السياسة بإنكار و رفض من الداخل و الخارج، حيث رأى كثير من المحللين السياسيين أنها قناع زائف يخفى وراءه أطماعا إمبريالية، كما لاقت هذه السياسات هجوما من الداخل الأمريكى حيث أن هذه السياسات كان من شأنها أن تخلق خوفا و خطرا يفوق الأخطار التى تدعى الإدارة الأمريكية أنها خرجت لدرءها، ومع الاستمرار فى هذه السياسة و التى تبلورت بشكل أكبر إبّان حكم جورج بوش الابن تفاقمت الكراهية فى صدور شعوب العالم الثالث و لا سيما الشعوب العربية تجاه الولاياتالمتحدة و التى أصبحت بمثابة "صعلوك فائق القوة"، و لذلك لم تنجح محاولات باراك أوباما فى تخفيف حدة هذه الكراهية إلا بمقدار ضئيل بعد خطابه فى جامعة القاهرة. كما مثّل تراجع النفوذ الأمريكى و تآكل دورها و سلطتها فى أمريكا الجنوبية إلى تزايد مؤشرات التراجع الأمريكى بصفة عامة، و يوضح تشومسكى فى هذا الصدد أن تهديد السيطرة الأمريكية فى أمريكا الجنوبية يمكن رصده منذ عقود خلت، ففى الوقت الذى كانت تخطط فيه إدارة الرئيس الأمريكى السابق نيكسون لتدمير الديمقراطية الصينية و تقويض دعائمها عن طريق دعم الحكم الديكتاتورى تحت قيادة الرئيس الصينى بينوشيه، جاءت تقارير من مجلس الأمن القومى تحمل تحذيرات للإدارة الأمريكية من فقد السيطرة على أمريكا الجنوبية، موضحة أنه فى حالة فقدان السيطرة الأمريكية على منطقة أمريكا اللاتينية فلا ينبغى للولايات المتحدة أن تتوقع إحراز أى تقدم فى مشروعها فى جزء آخر من العالم. ويشير تشومسكى إلى ما تمثله الحركات و النزعات التحررية و الاستقلالية التى ظهرت فى منطقة الشرق الأوسط من خطورة و تهديد يواجه المشروع الأمريكى، ففى أعقاب الحرب العالمية الثانية تأكدت الولاياتالمتحدة أنه لا سبيل لها لتعزيز هيمنتها على العالم إلا من خلال وضع يدها على مصادر الطاقة الهائلة التى تزخر بها منطقة الشرق الأوسط، و لذلك مثلت تطلعات الشعوب العربية فى إقامة ديمقراطيات حقيقية (خلافا للديمقراطيات الزائفة التى كانت شائعة فى دول المنطقة على رأسها مصر التى كانت لا تمانع فى إجراء بعض الممارسات الديمقراطية الصورية كالانتخابات و الاستفتاءات لإخفاء الممارسات القمعية الأخرى التى عملت على التكريس للديكتاتوريات القائمة آنذاك)، نقول مثل هذا التطلع لإقامة الديمقراطيات الحقيقية مثل تحديا كبيرا ينذر بنتائج كارثية على المشروع الأمريكى، و هذا ما تجلى فى معارضة الولاياتالمتحدة و حليفتها إسرائل للسياسات الخارجية المصرية بعد الإطاحة بمبارك. وفى سبيل تأكيد الهيمنة على المنطقة و العالم أجمع تغيرت سياسة الولاياتالمتحدة على يد أوباما عنها أيام جورج بوش الابن، حيث يوضح المحلل العسكرى الأمريكى (ليوتش دريزن) أن سياسة جورج بوش الابن فى التخلص من المقاومين كانت ترتكز على القاء القبض على المشتبه فيهم و تعذيبهم فى حين أن إدارة أوباما تقوم باغتيالهم مباشرة باستخدام أحدث أنواع الأسلحة أو باستخدام القوات الخاصة المدربة على أعلى المستويات، و تقوم هذه القوات التى يبلغ تعداد أفرادها عدد قوات الجيش الكندى كاملة بتنفيذ عمليات تخدم المشروع الأمريكى فى حوالى 120 دولة من دول العالم، و يقول بأن الفريق الخاص الذى اضطلع بمهمة اغتيال أسامة بن لادن قد سبق له القيام بعدد كبير من المهام المماثلة فى باكستان. وكما ذاع و انتشر الاعتقاد فى الضعف الذى انتاب مكانة الولاياتالمتحدة العالمية، فإن ثمة إعتقاد آخر لا يقل ذيوعا عن هذا الأول مفاده أن هذا الضعف و هذا التراجع فى المكانة الأمريكية يرجع فى الأساس إلى سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، فقد سددت الولاياتالمتحدة لنفسها عدة ضربات تسببت فى ظهور بوادر الإنهيار الأمريكى بنحو يذكرنا بالمثل الشهير:" على نفسها جنت مراكش"، فقد بلغ حجم الإنفاق و الأموال التى تكبدتها الولاياتالمتحدة إبان فترة حكم بوش- أوباما فى حربهما فى العراق و أفغانستان ما يقدر بقيمة تصل إلى 4.4 تريليون دولار، و هو ما يعد بشكل أو بآخر انتصار لبن لادن الذى أعلن أن هذفه يتمثل فى جرِّ الولاياتالمتحدة إلى شرك الإفلاس، و على الصعيد الداخلى فإن أكبر مشكلة تواجه الحكومة الأمريكية هى مشكلة البطالة، فى حين أن المؤسسات المالية معنية فى المقام الأول بسد العجز فى الميزانية التى ترى الغالبية العظمى من السكان أن فرض الضرائب على أصحاب الغنى الفاحش هو الطريق الأمثل لسد هذا العجز، و هذا فى الوقت الذى تعارض فيه الاغلبية كذلك اقتطاع الأموال من برامج الصحة. لم تكن هذه السياسات التى اصابت بها الولاياتالمتحدة بها نفسها بحديثة عهد فى تاريخها، ففى سبعينيات القرن الماضى مرّ الاقتصاد القومى الأمريكى بتغيرات شديدة ادت إلى انتهاء ما عرف ب"العصر الذهبى" للراسمالية، و كان من أهم الأسباب التى عجّلت بظهور بوادر هذا الضعف: إقامة مشاريع إنتاجية خارج الولاياتالمتحدة تبعد عنها مسافات بعيدة، و قد أدى تمويل هذه المشاريع إلى سقوط نسبة الأرباح بشكل ملاحظ، و بهذا نجد أن السياسيين الأمريكيين عندما ولجوا مستنقع الاقتصاد و معاملات السوق تخلوا عن أى نزوع عاطفى إنسانى تجاه شعبهم، متجاهلين مصالحه و استقراره و رخاؤه، وولوا جُلّ اهتمامهم لتحقيق المكاسب المادية قصيرة المدى، و قد سعوا على مدار 30عاماً إلى الحفاظ على الدولة الأمريكية مهمينة و قوية قدر الإمكان من أجل المحافظة على مكاسبهم و مراعاةً لمصالحهم الشخصية، و تحولت الديمقراطية الأمريكية على إثر ذلك إلى ديمقراطية زائفة حيث يتم عرض المناصب الأرفع فى الأحزاب على من يدفع أكثر و يتكفل بنفقات الحزب، وبذلك خضعت العملية السياسية للعبة الرأسمالية. و قد كان هذا عرضا موجزا لأهم النقاط التى تناولها ناعوم تشومسكى فى مقاله المذكور آنفا ، و سنتبع هذا المقال بمقال آخر نعرض فيه لمقالين آخرين يستأنف فيهما تشومسكى فكرته حول إرهاصات الإنهيار الأمريكى.