قد يظن بعض المصريين أن أهم ما حققته ثورتهم هو اضطرار مبارك إلى التنحي، ولا عجب! فقد قاموا بشجاعة مدهشة، ونبل مبهر، وتوحد أكسبهم قوة هادرة، قاموا على تمثال الاستبداد، والنظام الطاغي الباغي، بعفوية راشدة، أورثتهم إياها سنين الظلم المتراكم الذي يعجز اللسان عن سرده وسرد آثاره، وظلوا يزعزعون التمثال المتجذر منذ عقود. قاموا دون سابق تجربة شعبية يذكرها وجدانهم، وظلوا يدفعون هذا التمثال بإصرار يفوق استماتته للبقاء، ويتحدى بفورة فتوته وشبابه «دكتوراة العند» الشائخة، وظلت جحافلهم تدفعه، ونهر دمائهم وتضحياتهم يزيدهم قوة، ويزيده ضعفا .. حتى سقط التمثال بعد 18 يوما. تهاوي وسقط على الأرض، وبدأت يتكسر وتتناثر شظاياه، بعض شظاياه انتثرت مفتتة، وبعض قطعه بقيت مشروخة بجانب قطع أخرى. فهذا رئيس وزراء يرحل تحت ضغط الكسر وقوة الدفع، وسرعان ما تتناثر قطعا أخرى في سلسلة من الشروخ والتصدعات للتمثال الساقط، فيقتحم المصريون مقرات أمن الدولة بعد أن حرقت الثعابين ما استطاعت حرقه سريعا، ويضم السجن واحدا تلو الآخر من رموز عصر الطغيان، ونرى رأس النظام خلف القضبان. هكذا أسقطنا التمثال، وبدأنا ننظر إلى شظاياه وقطعه المتكسرة. وببراعة منقطعة النظير، بدأ المجلس العسكري كقطعة كبيرة ملتحمة في إعادة بناء التمثال، وكلما هاج الناس وانتبهوا: ماذا يعني الأمن الوطني؟، فيقولون: لا إنه مختلف(!) إنه قائم على حقوق الإنسان، ليست نفس القطعة القديمة التي كسرتموها. يسير الناس وفق المنطق، فيرفضون المحاكمات لأنها غير معبرة عن فساد النظام: نريد محاكمات ثورية، فيردون: لن تراق الدماء بين أبناء الشعب، سنقيم محاكمات عادلة ونبهر العالم، لسنا وحوش. استخدموا أدوات الإبهام والضبابية والملل، من نخبة وتغييرات في المحل لا قيمة لها، وجماعات متكلسة لم تطرق الثورة روحها ولا فكرها يوما، حتى وإن شاركت فيها. استطاعوا إعادة بناء التمثال، وتم هدف الفترة الانتقالية الذي أرادوا، وفوجئ المصريون بأنهم أمام التمثال الذي أسقطوه وكسروه وجها لوجه. كابوس لم يتوقعوه. إنه التمثال نفسه، سيعود ليحكمهم عبر هذه الصناديق التي لم تكن سوى استفتاء مقنع على ثورتهم. بكل تشويش وفساد وتزوير، يعود التمثال متلائما متماسكا كاملا.. حقًا لقد صدمنا وذهلنا بقدرتهم على إعادة تكوين التمثال مرة أخرى، ولسان حال الجميع: وكأن ثورة لم تحدث، سيعود ليحكمنا نفس النظام مجددًا. لكن النظام لن يعود ليحكمنا .. فالثورة لم تكن مجرد إسقاط لتمثال، فتنتهي وتموت إذا بني غيره، وصنع مثيله، فليصنع ألف تمثال، ستظل حجارة ساقطة خائرة، لأن الثورة أسقطت القاعدة التي يرتكز عليها كل طاغية، الثورة أسقطت المنصات التي تقوم فوقها تماثيل الديكتاتورية، فهي لا تقوم إلا على قواعد من الخوف وفقدان الهوية والاغتراب. الخوف من الموت والسجن والتشويه.. كلها قواعد نسفتها الثورة، بدماء شهدائها، وشجاعة رجالها ونسائها وأطفالها، وتجاوزها للإعلام التقليدي. فقدان الهوية انتهى.. فقد استردت هويتها أجيال تعشق الوطن، وغير مستعدة لقبول خسارته، والاكتفاء بحياة البهائم، وملذات الفتات على موائد الطغاة. تلاشى الاغتراب الذي هو ثمرة الضعف والانهزامية والكفر بالذات، تلاشى للأبد يوم هتف النبض المصري: ارفع راسك فوق أنت مصري. أدهشتنا بإعادة التمثال، وستندهش من عدم قدرتك على إقامته، وإن أوهمتنا أنك نصبته، وصحت فينا: لقد عاد..! وهاهم الساجدون الراكعون.. فليس أمامك في الحقيقة حتى تقيمه فينا مجددًا إلا أن توجد نصب وقاعدة لوقوفه وإقامته، أن تعيد الخوف لقلوبنا، والاغتراب إلى عقولنا، والجهل بالذات إلى وجداننا.. ليس أمامك حقًا إلا أن تعود بالزمن! أما نحن فأمامنا جهد إنتاج قيادات من داخل الأجيال الثائرة، فما استطعت أن تبني التمثال إلا بفساد وخوار النخب والمعارضة التي تؤمن بك أكثر من نفسك.