بعثت إلينا الشاعرة الموهوبة انتصار طايل برسالة تعتب علينا فيها أننا نتحدث عن الثورة والثوار وكأننا لم ننتمي إليها، وذكرتنا بأننا كنا من الأوائل الذين شاركوا فيها وخططوا لها وروجوا. وطالبتنا بأن نتحدث عن الثورة باعتبارنا منتميين إليها، وهو ما دفعنا لكتابة الذكريات التالية من قلب الثورة.
في شهر أكتوبر من عام 2010م ،كُنا مجموعات كبيرة من الرجال والنساء والشباب، إضافة إلى ناشطين على "فيس بوك"، قد بدأنا حملات واسعة النطاق للترويج لثورة 25يناير المجيدة، وكان خلفنا تاريخ طويل لتهيئة الأجواء لتلك الثورة،هذا التاريخ يمتد لأكثر من عقد ونصف مضي،وكانت تلك التهيئة تتلخص في تنظيم تظاهرات ،وشن حملات صحفية ضد سياسات مبارك ورجاله ،وهو ما عرض كاتب تلك السطور للحبس لمدة عامين بتهمة سب وقذف التطبيع الزراعي مع "إسرائيل"، مع اثنين من رفاقي من بينهم رئيس تحرير جريدة الشعب الكاتب الصحفي المعروف مجدي أحمد حسين والفنان عصام حنفي رسام الكاريكاتير.
وخلال الخمسة عشر عاما التي سبقت ثورة 25يناير المجيدة دعونا مراراً كحركة إسلامية ووطنية سياسية للخروج من أجل إسقاط نظام مبارك، وفي كل مرة كُنا نفشل وتؤدي تحركاتنا وتظاهراتنا في نهاية الأمر إلى التجمع بضعة مئات أو عشرات من الناشطين والساسة فوق سلالم نقابة الصحفيين.
وكان هذا التجمع يردد هتافات ويحاصره الأمن، حتى ينتهي، في وقت كانت فيه حفلة واحدة للمغني تامر حسني يحضرها عشرات الآلاف من البشر، وهو ما جعلنا نشعر بنوع من اليأس لعجزنا عن حشد الشاعر حول ما ندعو إليه.
وكُنا، باعتبارنا ناشطين على "فيس بوك" خلال آخر عامين قبيل تفجر ثورة 25يناير قد دعونا لأكثر من اعتصامات وإضرابات عامة،كلها فشلت بلا استثناء، ولم ينجح منها بشكل نسبي يعطينا نوعا من الأمل في المستقبل سوى إضراب واحد في ستة إبريل عام 2009.
وتم نجاح هذا الإضراب بسبب شجاعة أهل المحلة الكبرى، والذين فجروا صورة مصغرة من ثورة 25يناير، خلالها أسقطوا تمثال مبارك، حيث خرجت مدينة المحلة الكبرى المجاهدة كلها ضد نظامه، وسقط من أهلها شهداء وجرحى، إلا أن مبارك نجح في احتواء ثورتها وأفشل هذا الإضراب.
ومن هنا وفي تلك الأجواء ظللنا محبطين يعلو وجوهنا اليأس، وأيقن مبارك وتشكيله الحاكم، أن شعب مصر مات، ولن يثور أبدا مهما فعل به وظلمه واضطهده وزور انتخاباته، وصادر حقوقه، وصفى انجازاته ومكتسباته الاقتصادية.
هذا، لأن مبارك ورجاله ونجله فعلوا ذلك بالفعل، وباعوا مصر ورهنوا إرادتها للخارج، وظل شعبها صامتا، بعد أن أهانوه داخليا وخارجيا، ومرمطوا بكرامته وسمعته الأرض.
ظلت تلك الأجواء المحبطة نعيشها إلى أن أراد الله وأحرق الشهيد بوعزيزي نفسه، وتفجرت الثورة التونسية العظيمة، ورأى شباب مصر ورجالها ونساءها أهل تونس الخضراء، وهُم يخرجون ضد طاغية لا يقل عن مبارك جبروتا واستعلاء وديكتاتورية وفسادا، ويخلعونه من السلطة ويسقطونه ويجعلونه يفر إلى المملكة العربية السعودية مهانا منهزما خائفا.
كما رأى المصريون رجال طاغية تونس يدخلون السجون أو يفرون لدول الجوار وأوروبا، ورأوا شعبها ينتصر، كان هذا النصر التونسي، والثورة التونسية إلهاما لشعبنا وفتحا مبينا من عند الله أعطانا الأمل، ومنحنا شحنات ثورة هائلة، جعلنا نرفع شعار نموت أو لا نموت.
ساعتها شعر مبارك مع عصابته بالخطر، ودبروا حادث حرق كنيسة القديسين، ومن بعده سلسلة من الحوادث الطائفية محاولين إلهاء الشعب بمعارك دينية، من أجل المحافظة على كراسيهم واستمرارهم في السلطة.
والمصيبة أنهم حاولوا اتهام عناصر تنتمي لأهل غزة بفعل جريمتهم، ووقف الوزير المجرم حبيب العادلي بأكاديمية الشرطة لكي يقول إنه وأجهزته وتنظيمه السري المجرم الذي دبر حادثة القديسين، وأنهم أمسكوا بمن ارتكبوا هذا الحادث، بعد حملات اعتقال واسعة في الإسكندرية قتل خلالها الشهيد سيد بلال تحت التعذيب؛ إثر محاولة تلفيق جريمة نسف الكنيسة له.
تلك الطاقة جعلت مجاميع واسعة النطاق ومتعددة الأطياف والفئات العمرية تختار عيد الشرطة، والتي باتت بالنسبة لهم ليس الشرطة التي قاومت الغزاة البريطانيين دفاعا عن كرامة مصر واستشهد العشرات منها رافضين الاستسلام، وإنما شرطة القهر والتعذيب والقتل والإفساد والفساد والإجرام.
اختار الثوار يوم عيدها للقيام بالثورة والدعوة إليها كحركة احتجاجية ضد الأوضاع المتردية بمصر، وأتذكر أنني دخلت في نقاش مع الشاعرة انتصار طايل، وهي تدعو للثورة بحماس، وعبرت لها عن خشيتي أن تتمخض دعواتنا إلي بضعة مئات من الأفراد يقفون على سلالم نقابة الصحفيين كالعادة وتفشل، فانفجرت في وقالت لي: أنتم تحبطوننا كشباب، ومن فضلك لا تردد مثل هذا القول ولنتوكل على الله؟
ولم أملك إلا تأييد منطقها الذي كنت أؤمن به، ولكنني انتظرت ردة فعلها، وواصلنا عمليات الحشد.
كان أولادنا وبناتنا وإخواننا تتملكهم طاقة غير عادية، وعمليات إصرار على التغيير غير مسبوقة، وكانت الدعوة للثورة مبهرة.
وقتها قال لي أحد الزملاء المتصلين بدوائر رسمية بالحكم: "ابقى قابلني لو نجحتم في حشدكم، ستتجمعون بضعة مئات مثل كل مرة".
وقال الجنرالات بوزارة الداخلية لمبارك نعم الحشد يتم بشكل واسع لكننا سنقهر أية تجمعات ونحتويها، ولم يوجد أي فرد من أفراد العصابة الحاكمة بمصر كان يقتنع أن الثورة من الممكن أن تحدث وتنجح.
وجاء يوم 25يناير وفي ظهيرته كان كل جنرالات الداخلية يحتلون الميادين الرئيسة في مصر ويسيطرون عليها، واندفع رجال مصر مع نسائها من كل الاتجاهات إلى قلب ميدان التحرير.
وكانت غالبيتهم الساحقة من طليعة "فيس بوك" الثورية، وقطع المتظاهرون الميدان وتمركزوا فيه إلا أن قوات الأمن اقتحمت الميدان بعد منتصف الليل وفرقتهم وطاردتهم، وظلت عمليات الكر والفر بينها وبين الشباب حتى الفجر، وسقط خلال ذلك معتقلون وقتلى وجرحى.
وفي يوم 26يناير توجهنا إلى نقابة الصحفيين ظهرا، وكان لدينا اجتماع كصحفيين بجريدة الشعب، وكنا حوالي 15صحفيا وصحفية، وكنت أتابع الشوارع بوسط القاهرة، حيث كان التوتر يخيم عليها والشرطة في كل مكان والناشطون يختبئون بالحواري ويتحينون الفرصة للخروج منها لميادين التظاهرات.
ولكن الحشود الأمنية كانت هائلة ومخيفة، وقد دخلت النقابة والتقيت بصديقي الكاتب الصحفي المعروف محمد عبد القدوس وهو يمسك بالميكرفون وعلم مصر، وسألته متى سننطلق؟ فقال لي: إنه في انتظار ظهور الناشطين.
ثم بدأنا اجتماعنا مع رفاقي بالشعب، ونحن في الاجتماع دخل علينا من يبلغنا بأن الكاتب الصحفي والقيادي النقابي المعروف يحيى قلاش اعترضه الأمن واختطفه وهو يهم بدخول النقابة، عندئذ أخذت رفاقي ونزلنا للطابق السفلي من نقابة الصحفيين، حيث كنا مجتمعين بقاعة في الطابق الرابع.
وقتها كان معي الزملاء والزميلات كارم محمود -نائب رئيس تحرير جريدة الدستور حاليا- وعلاء البحار -مدير تحرير صحيفة الحرية والعدالة- حاليا، ومحمود سلطان -رئيس تحرير جريدة المصريون-، ونجوى عبد الحميد الكاتبة الصحفية بجريدة الشعب، وزميلتها هدي مكاوي، وزميلنا عامر عبد المنعم مدير تحرير جريدة الفتح، وعدد من الزملاء الآخرين.
وبسرعة قررنا اقتحام عربة الشرطة للإفراج عن زميلنا، وقد كان.
هجمنا بالفعل على العربة، وكان الشارع خاليا إلا من أفراد الشرطة، واصطدمنا بأمن الدولة التي تصدت لنا عناصر منها، إلا أنني قمت بالهتاف في شارع عبد الخالق ثروت وردد الزملاء الهتاف خلفي وقطعنا المرور بقلب الشارع، فقاموا بإطلاق سراح زميلنا يحيى قلاش.
وتدفقإالينا مهنيون من نقابة المحاميين وعدد من المارة واحتشدنا أمام نقابة الصحفيين فوق سلالمها الشهيرة، وظللنا نهتف وتدفقت علينا وسائل الإعلام، وبدأ الناشطون بعد ساعات يتدفقون إلينا، بعد أن قامت قوات الأمن باعتقال الزملاء محمد عبد القدوس وكارم محمود وآخرين.
ومن يراجع أيام الثورة، ويتوقف عند يومها الثاني يجد أول تظاهرة تسببت في تواصل أعمال الثورة لليوم الثاني على التوالي هي التظاهرة التي فجرناها من نقابة الصحفيين بفضل الله، ويجد صور كل الأشخاص الذين تحدثت عنهم على شاشات الفضائيات تشهد على صحة ما أقوله لوجه الله.
الطريف أنه بينما كنا نشتبك مع الشرطة ونتظاهر أمام النقابة كانت شاشات المارينز الناطقة بالعربية وخصوصا قناة "الجزيرة" تتصل بأسماء معينة في منازلها على أنها من رموز الثورة وأنها بيننا، وهو ما يؤكد أقوالنا بوجود مخطط خارجي متكامل يضم شخصيات ومنظمات وفضائيات، يستهدف فرض قيادات وعناصر على ولاء للخارج باعتبار أنها رموز الثورة الوحيدة وقياداتها. ......ونواصل [email protected]