خالص العزاء لكل مسيحيي مصر، ولكل الأقباط الأرثوذكس في العالم. لم يكن المحتوى العقدي في المقال الأخير للأديب المصري العالمي علاء الأسواني، بعنوان: من يستقبل البابا شنودة.. هو الذي أقضّ مضجعي، وملأني مرارة، رغم أن إشاراته العقدية غير مقبولة للبابا شنودة نفسه، وأجزم يقينا أنه لو كان حيّا لما رضي أن يقال أن هذا هو استقباله، وهؤلاء هم مستقبلوه. فالجانب العقدي الغيبي يحمل استخفافا بل صدمة للمسلمين والمسيحيين، ولكن لنقل أنه مجرد فكرة أو خيال او فانتازيا، وهذا ما حملت عليه الإطار العام للمقال، بأنه صورة رمزية تجمع شهداء الوطن الأبرار، مينا دانيال، عماد عفت، علاء عبد الهادي، مايكل مسعد. وغوصا في مضمون المقال ورسالته، فإن أقل ما يقال عنها أنها مفجعة، وبخاصة لمن يحب ويثق في علاء الأسواني كرجل وطني، ولمن يعتبرونه – وأنا منهم – مجسّا صادقا لحرارة الثورة لأن ميله كان معها، ودفعه كان لأجلها. لكن المذهل أنه حشد ثلة من شهداء الثورة لاستقبال البابا شنودة وقد كان جزءا من النظام البائد، وإن كان للبعض أن يدافع أو يتأول أو يعذر، فهل لرجل بحسم وثورية الأسواني أن يمجد ويعظم شخصا أو جهة دافعت يوما عن مبارك، أو قبلت التوريث، مهما كانت قداسته لدى أتباعه، أو صداقة ومعزّة هؤلاء الأتباع، أو الرغبة في تعزيتهم ومواساتهم، أليست الثورة أغلى وأعزّ وأقدس؟ إن الجمع بين مينا دانيال والبابا شنودة في جنة الثورة وحديقتها الوارفة خطيئة ثورية، تشبه الجمع بين عماد عفت وبين شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي رغم تشابه هذين وذاكين في الملة، فالمنطق الثوري، والخيال الوطني يجمع بين عفت ودانيال كرمزين من رموز الثورة، بينما لا يجعل في استقبال البابا شنودة إلا أمثال الشيخ سيد طنطاوي.. فكلاهما كان جزءًا من النظام، وداعمًا لحكم مبارك، يرى فيه نجاة وخير، ويرى في سقوط نظامه أو تهديده خطرا ووبالًا. وفي مناقشة البابا شنودة لمينا دانيال ما تضيق له صدور الثوار، وبخاصة في مثل هذه الحجج والتبريرات التي وضعها الأسواني على لسانه: قال البابا شنودة: لكنني لما تقدمت في السن تعلمت خطورة أن يتخذ الإنسان أي قرار وهو غاضب. ما هذا التبرير الأجوف؟! ألم تكن ثورة غضب.. وكان كل من خذلها هادئًا مهدئًا يتروى لقراراته، ويحسب حساباته. هل أصبح حماس مينا انفعالًا شبابيا يتوارى أمام حكمة البابا وهدوئه الذي اكتسبه بفضل الشيخوخة؟ وقال: أنت مسؤول عن نفسك فقط. أنت اخترت الثورة ودفعت الثمن حياتك وأصبحت شهيدا. أنا قرارى لا يخصنى وحدى. كل موقف أتخذه سيؤثر على ملايين الأقباط والمسلمين وعلى مصر كلها. كثيرا ما اضطر إلى اتخاذ مواقف لا تعجبك، لكنها ضرورية ولا مفر منها. ولأن البابا شنودة لم يقل هذه الكلمات، وإنما هو تبرير الأسواني لموقفه، فلماذا لم ينسحب الموقف ذاته، والتبرير نفسه مع جماعة الإخوان التي ما فتئت تردد نفس المعنى، وقد كانت حجتهم أقوى، وموقفهم أقرب للتصديق، فالثورة لو لم تتصاعد وتنتهي بإجبار النظام على إعلان تخلي أو تنحي مبارك لكان الإخوان هم من دفعوا الثمن الباهظ، وقد كان هذا واضحًا كالشمس في خطاب مبارك الأول الذي فرّق بين الشباب الطاهر في 25 يناير، والأيادي الإخوانية المندسة في 28 يناير. يقول الإخوان إنهم لو أعلنوا مشاركة الجماعة لقضي على الثورة وشوهت، فلا يصدقهم أحد ولا يرضى لهم قولًا، ويقولون إنهم يضطرون لاتخاذ مواقف لا تعجب الثوار فيتهمون بالخيانة والعمالة والصفقات السرية. ويتضح الأمر أكبر في هذه الجملة التي ساقها الأسواني على لسان البابا: تريد أن تسألنى لماذا لم أعلن تأييدى للثورة من البداية؟.. الإجابة كما قلت لك أننى أحسب كل كلمة أقولها. أتظننى غافلا عن اشتراك آلاف الأقباط في الثورة؟ أتظننى لم أعرف بعشرات الكهنة الذين انضموا للثورة، وأقاموا القداس فى كل ميادين مصر؟ كنت أعلم وكنت أصلى من أجلكم. أليس هذا المنطق هو عين ما يردده الإخوان؟ فلا يقابلون وفق المنطق الثوري إلا بتهم التخاذل والتحايل والنفاق، ويفرق الجميع بين الشباب والقادة، فشباب الإخوان موجودون دائما، وبعض القيادات، والعتب على الرؤوس.. فلماذا لم يفعل الأمر ذاته مع موقف الكنيسة والتفرقة بين موقفها الموالي للنظام، وموقف من ثار من شبابها، وخرج من حدود أسوارها؟ إن العقلاء من المفكرين والساسة الأقباط – مثل الدكتور عماد جاد - يعلنون استياءهم من تصدر رجال الدين المسيحيين لغضبة الشباب المسيحي، أو مطالب أبنائه، فكيف يسوق الدكتور علاء الأسواني تبريرا لمواقف البابا شنودة واقتحامه للسياسة، وعزل الطاقات المسيحية السياسية والمجتمعية داخل الكنيسة، أليس هذا تشويشًا على الدور المرتقب للبابا الجديد بأن يحيي المبادئ المسيحية الأصيلة مثل: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، فلا يقتحم السياسة باسم الدين، أو يحيد عن دوره الروحي ليتصدر مشهدًا ليس له. والسؤال الأهم هو: ما الذي فعله البابا شنودة ليخلد مع شهداء الثورة؟ هل دفع بأبناء شعبه للنشاط السياسي والانضمام للمعارضة الوطنية الحقيقية؟ أم كان يعتبر نظام مبارك ضمانة؟ أتراه وقف بقوة ليطالب بحق دماء شهداء مصر أمام ماسبيرو أو في شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء؟ أم كان آخر كلامه من الدنيا يسقط حكم العسكر؟ ما الذي فعله البابا شنودة ليكون شهداء الثورة في استقباله؟ والعجيب أن من يوقع مقالاته بشعار الديمقراطية هي الحل هو من يمجد لرمز ديني أصر على إقحام الدين في السياسة، وفي الحياة المدنية، فحرية العقيدة التي ينادي بها الأسواني – بحق- رفضها البابا شنودة، ولا يليق في عالم الإنصاف أن تصبح قصص معتنقات الإسلام أو الراغبات في معرفته مادة للتندر على المسلمين وأنهم ينشغلون ويشغلون الدنيا بوفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة وعبير، دون التعريج على النصف الثاني من المعادلة. فالكنيسة شاركت في تضخيم هذه القصص وغيرها، لوقوفها باستماتة أمام حرية العقيدة، ولو أنها قبلت قيم المجتمع الحر الديمقراطي لما وصلت هذه القصص للإعلام، وحرية العقيدة قيمة أصيلة للديمقراطية أهدرتها الكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة، كما أهدرت قيمة إعلاء القانون، والوقوف عند أحكامه، وأصرت على معاندته بسيف النفوذ الديني وإهدار أحكامه بحجة تعارضها مع الكتاب المقدس. وإذا كان للبابا شنودة مواقف شريفة ونبيلة من قضية القدس، أو حوار الأديان والتسامح الديني، فهذه أمور يشاركه فيها الكثيرون، فتحسب لهم ولكنها لا تعفيهم من التبعية للنظام. ومازلت أتساءل بأي منطق انضم البابا شنودة إلى حديقة شهداء الثورة.. وكان رموزها في استقباله؟