مع إعلان الحكومة البريطانية هذا الصيف عن عودة انتشار الحمى القلاعية بين المواشي، تجددت مخاوف المستهلكين حول الصحة العامة وسلامة استهلاك اللحوم في العقد الأخير، الذي شهد أيضاً اندلاع أوبئة مرعبة كجنون البقر، والحمى القلاعية، ووباء حمى الوادي المتصدع، وأنفلونزا الطيور، والالتهاب الرئوي الحاد (سارس). يترتب على اندلاع أوبئة المواشي خسائر اقتصادية ضخمة وأسقام غير مفهومة تماماً ولا علاجات معروفة لها، وتنتقل إلى البشر وبائياً أيضاً، وافتقاد اليقين لدى الجمهور المستهلك للحوم حول سلامة منتجاتها يصل لحد الإعراض والكساد وانهيار قطاع اقتصادي هام. تُعرف الحمى القلاعية أيضاً بمرض الفم والقدم لأنه يصيب الحيوانات ذات الظلف المشقوق. وهي مرض فيروسي سريع الانتشار، يصيب المواشي، كالبقر والضأن والماعز والخنازير على نحو وبائي، ويصيب الحيوانات البرية كالغزلان والزراف والظباء، والحيوانات ذات الخف كالجمال والأفيال. الحمى القلاعية مرض مشترك بين الإنسان والحيوان. لم يشكل فيروسها بعد خطورة على الإنسان، وتندر عدوى البشر به. وقد ينتقل للإنسان عبر جروح جلدية أو شرب لبن ملوث أو لمس أدوات ملوثة، لكنه لا ينتقل عبر أكل لحوم مطهية. تتمثل أعراض عدوى البشر بحمى وتقرحات مؤقتة في الفم وجلد اليدين والقدمين، وتعالج أعراضها كالإصابة بفيروسات الأنفلونزا. لكن يثير اندلاع وباء فيروسي مخاوف حقيقية حول انتقال الأمراض من الحيوانات إلى البشر، بسبب الاحتكاك المباشر بين البشر وهذه الحيوانات، أو بواسطة ناقلات المرض. فقد ارتفعت وتيرة نشوء وعدوى هذه الأمراض في السنوات الأخيرة، ما ينذر بأخطار جسيمة. جنون البقر والبشر أما جنون البقر (BSE) فهو مرض تفسد فيه أنسجة مخ البقرة، وتتحلل وتصبح هشة كالإسفنج، حيث تتحول تدريجيا إلى الجنون، فتصير أكثر هياجا، وتعجز عن الوقوف، وتتصرف بطريقة غريبة وغير متوقعة حتى تموت، بعد أن يكون مخ الحيوان قد دُمّر تماما. ينتقل جنون البقر للإنسان في صورة مرض مدمر آخر اسمه "كرويتزفلت جاكوب"، حيث يصاب المرضى بتدهور نفسي وعقلي هائل، ينتهي بموت مؤكد، نتيجة تحلل أنسجة المخ، لدى تناول البشر لحوم أبقار تحتوي بريونات، أي "جزيئات بروتينية مسببة للعدوى". وكان العلماء وجدوا أن البريونات هي بروتينات تتواجد طبيعياً على سطح فئة معينة من خلايا المخ، لكنها تقوم لسبب غير معلوم بطيّ نفسها بطريقة شاذة، فتكتسب الطبيعة "البريونية"، وتصبح مُعدية. وقد أدى انتشار المرض بدوره إلى إعدام ملايين الأبقار في بريطانيا، ثم الولاياتالمتحدة وكندا. حمى الوادي المتصدع وباء يستوطن حول الصدع الأفريقي العظيم من شمال البحر الأحمر لشرق أفريقيا. وكان وادي مور باليمن ومنطقة جيزان بالسعودية قد شهدا قبل 7 سنوات اندلاعاً للوباء أودى بنصف مواشي المنطقتين، وتسبب بعشرات الوفيات البشرية. يسبب هذا الوباء فيروس وريدي ينتقل إلى المواشي بلدغ البعوض الذي يحمله من حيوان مصاب إلى سليم. وهكذا أيضاً تنتقل العدوى للبشر أو بالتعاطي مع حيوانات مصابة أو دمائها وسوائلها أو استهلاك ألبانها الملوثة. وتظهر أعراض المرض على الإنسان بعد العدوى بأيام، وتشبه أعراض الأنفلونزا من حمى وصداع وآلام ظهر وعضلات. أحياناً، يصاب المريض بإعاقة بصرية أو صداع شديد وغيبوبة بعد أسبوع أو أكثر من بدء الأعراض، أو يصاب بحمى نزفية، واصفرار البشرة بسبب إصابة الكبد، ونزف يصاحب القيء والبراز، ونزف باللثة وطفح دموي. تنتهي الإصابة بالوفاة بعد نحو أسبوع بمعظم الحالات. أمراض عابرة للنوع وكانت منظمة الصحة العالمية قد عقدت قبل عامين مؤتمراً ثلاثياً حول هذه المخاطر، بالاشتراك مع منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة صحة الحيوان، وصدر عنها بيان مشترك حول خطورة الأوبئة العابرة للنوع الحيوي. وقد ناشدت المنظمات الدولية صناع القرار في البلاد المتقدمة والنامية توجيه مزيد من الاهتمام لهذا النوع من الأوبئة، التي يصعب التحكم بها بعد تفشيها. وحثت أطباء الصحة العامة والبيطرة على مزيد من التنسيق والتكامل بهدف تقييد انتشارها. تكمن خطورة هذه الأمراض في صعوبة، إن لم يكن استحالة، توقع مصادرها. فليس ثمة متخصص طبي أو بيطري يدري تحديداً أي الحيوان أو ناقل المرض سيسبب الوباء القادم. ومثال ذلك أنفلونزا الطيور التي تنتقل من الطيور البرية والداجنة إلى البشر، وأدت إلى وفاة مئات من البشر، وإعدام الملايين من الدجاج والبط والديكة الرومية بهدف السيطرة على المرض. وهناك مرض ليشمانيا، الذي ينتقل عبر البعوض. وفيروس نيباه الذي يسبب أعراضا تشبه أعراض أنفلونزا الطيور، وهو قد عبر من خفافيش الفاكهة إلى الخنازير ثم إلى البشر، وانتشر في ماليزيا عام 1998، وفي بنغلاديش عام 2005. ويعتقد أن نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) أحد الأمراض العابرة للنوع، إذ وجد العلماء تشابها كبيراً بين فيروس ذلك المرض في البشر (HIV)، وفيروس نقص المناعة المكتسبة لدى القردة (SIV). متلازمة سارس يصيب فيروس سارس ضحاياه بصوبة التنفس والتهاب رئوي غامض عُرف لاحقاً بمتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (SARS). ظهر في الصين، انتشر بجنوب شرق آسيا، وانتقل إلى أميركا الشمالية، منذ أربعة أعوام، وأدى لوفاة مئات الأشخاص. ويعتقد أن ذلك المرض انتقل للبشر من أحد أنواع القطط، وأنه ظهر أولا بأسواق الحيوانات الأليفة جنوبي الصين. ينتمي فيروس سارس للفيروسات الإكليلية، ويحتوي قدراً هائلاً من المعلومات الجينية، وفي كل مرة يستنسخ نفسه داخل خلية تحدث تغايرات جينية ضئيلة تجعله أقدر على إصابة البشر واستنساخ نفسه داخلهم. ووفقاً لمبدأ الانتخاب الطبيعي، تؤدي تغايرات الفيروس لخلق سلالات جديدة أقدر على البقاء والانتقال من إنسان لآخر. ولسلالة الفيروس الجديدة خصائص مميزة جعلتها تقفز مؤخراً إلى الإنسان وتحيا داخل جسمه. خطورة سارس في انتشاره خلال الزحام في الأسواق والتجمعات البشرية الكثيفة، وعبر المسافرين بالطائرات والقطارات، ويفاقم الأمر تصاعد غير مسبوق في الحراك البشري المعاصر، مما أدى لانتقال الفيروس من آسيا إلى أميركا الشمالية. كان العلماء يعتقدون بالعدوى عن قرب كالعطس، لكنهم توصلوا إلى سهولة انتشار المرض رغم عدم وجود اتصال واضح بين المرضى وآخرين مصابين بالعدوى. أحياناً، ينتشر الفيروس عبر الهواء أو الإمساك بمقابض أبواب مثلاً، مما يفاقم خطورته وصعوبة السيطرة عليه. تنتشر السلالة الحالية عبر رذاذ يخرج من الرئة مع السعال ولم يتأكد الأطباء من وجود طرق أخرى لنقل العدوى. أنفلونزا الطيور وهي مرض معدي يسببه فيروس الأنفلونزا (أ)، وتحمله الطيور المائية المهاجرة، كالبط الذي يشكل مستودعاً طبيعياً لفيروسات الأنفلونزا (أ). وقد سُجّل اندلاعه في إيطاليا قبل قرن، حيث عرف بطاعون الطيور. تكمن الفيروسات في دماء الطيور ولعابها وأمعائها وأنوفها، وتخرج في روثها الذي يجف، ويتحول إلى ذرات غبار متطايرة تستنشقها الطيور والبشر. يعتبر الأوز والحبش والبط والدجاج الأكثر إصابة بهذا الفيروس. ويكفي غرام واحد من سماد ملوث لإصابة مليون طير. كان فيروس إنفلونزا الطيور "أتش5إن1" يصيب الطيور والخنازير. لكن منذ 1959، عبرت أنواع فرعية من الفيروس -إتش5، إتش7، وإتش9- حواجز الأنواع فأصابت البشر، مسببة أعراض ومشاكل تنفسية معتدلة، بإستثناء "أتش5إن1"، الذي سبّب إصابات حادّة بنسبة ضحايا مرتفعة في 1997, 2003، و2004. يفاقم من خطورة فيروس "أتش5إن1" سرعة انتشاره، وقدرته على الصمود طويلاً، وعلى التحور وراثياً، وعلى التزاوج مع أنفلونزا البشر العادية بحيث يولد نوعاً جديداً خطيراً من الأنفلونزا، وصعوبة علاج الفيروسات عموماً. كما أصبح مسبباً خطيراً للمرض لدى الثدييات عامة، ووسّع مدى أستهادفه لأنواع الثديات. تمثل هذه الأمراض تهديداً جسيماً للثروة الحيوانية في العالم، وخطراً لا يستهان به على الصحة العامة، كما أن مكافحتها والتصدي لعواقبها تستنفد موارد طبية ومالية وإدارية هائلة، وتفضي إلى خسائر اقتصادية بالغة وطويلة الأمد. في جميع الحالات تقريباً، لا وسيلة لوقف انتشار الوباء عند العلماء أفضل من إعدام القطعان المصابة والمشتبه بتعرضها لها، وقد يشمل ذلك أقاليم كاملة. كما أن الفزع الذي يجتاح الرأي العام بسبب الأوبئة يؤدي لافتقاد الشعور بالطمأنينة إزاء سلامة الموارد الغذائية، خاصة المنتجات الحيوانية. رؤية شاملة يرى العلماء عدم الفصل بين التغيرات البيئية والمناخية والثقافية التي أحدثها الإنسان وبين اندلاع الأوبئة المهددة للثروة الحيوانية والعابرة إلى الإنسان. كذلك، تلعب الأنماط الثقافية والعقدية والمعيشية دوراً بيناً في انتشار الأوبئة. فتغير المناخ نحو الاحترار الكوني ونمط استغلال الموارد الطبيعية له دور. فمثلاً، يتوقع العلماء الأوروبيون وصول فيروس غرب النيل لقارتهم نتيجة الاحترار. وهو ينتقل عبر البعوض، ويحدث التهابا قاتلا في المخ، وقد ظهر في الولاياتالمتحدة، وتسبب في عدة حالات وفاة. من ناحية أخرى، دأبت الحضارة الغربية على ترذيل الشريعة الإلهية وعدم التقيد بأحكام المباح والمحرم من الطعام والشراب، وغياب مفهوم الطهارة والنجاسة. وهذا أدى لممارسات ضارة كاستخدام دم مسفوح ولحوم وعظام وأمخاخ الميتة والفضلات الآدمية مثلاً، في صناعة أعلاف المواشي والدواجن رغبة بتعظيم الإنتاج والربح. لكنها لم تعد تصلح للاستهلاك الآدمي! يفاقم الأمر عولمة نمط غذائي غربي يبالغ في استهلاك اللحوم بنحو غير مسبوق تاريخياً، مما يُغيّب الغذاء النباتي الآمن ويضعف المناعة، ويُحمّل الأرض الزراعية وموارد المياه ما لا يُحتمل. فكل كيلوغرام من لحم البقر مثلاً يتطلب 20 كيلوغراماً من علف الذرة أو الشعير، وهذا ما لا قبل للأرض المزروعة والمياه المتاحة بإنتاجه في ظل التكاثر البشري. كذلك، تلعب الأخلاق والعقائد الفاسدة دوراً في الأوبئة. فبعض قبائل غينيا الجديدة يأكلون أجزاء (كالأمخاخ) من أقربائهم المتوفين، مما يسبب العدوى بالكورو، أحد الأمراض البريونية. وقبائل أفريقية أخرى يمارس أفرادها الجنس مع أرملة قريبهم المتوفى منعاً لظهور شبحه، مما ينقل الإيدز الذي سبب وفاته إلى أقربائه عبر أرملته، إضافة إلى فوضى العلاقات الجنسية. وبسبب الفقر في بلاد أفريقيا يُضطر السكان إلى أكل حيوانات مصابة بأمراض خطيرة، إضافة لاستهلاك القرود وحيوانات حاملة لمسببات المرض لا تصلح أساساً للاستهلاك الآدمي. ويؤدي اتساع التجارة العالمية بالمواشي والدواجن لسرعة انتشار الأوبئة وقضائها على السلالات الأصيلة من الحيوانات. وكذلك اتساع اقتناء الحيوانات النادرة أو المنزلية الناجم ربما عن اغتراب البشر وجفاف العلاقات الإنسانية. يؤدي تضخم مدن البلاد النامية و وتكدس سكانها في أحزمة الفقر والصفيح المحيطة بها، مع غياب مياه الشرب النظيفة وشبكات الصرف الصحي، إلى هشاشة الصحة العامة، فانتشار أي وباء هناك سيكون له نتائج كارثية.