لكل تجمّع بشري طابعه الخاص، ونحن نرى أنه يتوجب علينا التفكير في النهوض الحضاري من منطلق الأمة لا من منطلق الدولة فيتم إنتاج الدولة من مفهوم الأمة. إنها محاولة للفهم ومحاولة للحلم، تبدأ من الماضي وتمسك بالأصول وتنجذب للمستقبل. بعد أن فشل الخيار العسكري للاستعمار الغربي في فرض سيطرته على ثروات العالم العربي والإسلامي فضلا عن فرض سيطرته على العقول والأفكار، ففشلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، وأجْلِىَ الإنجليز عن مصر، ودفع مليون شهيد أرواحهم ثمنا للحرية في الجزائر، وانتصر عمر المختار على الإيطاليين في ليبيا، وهُزمَ الانكليز ثم الروس والأمريكيون أمام المجاهدين في أفغانستان، ولا زال الاحتلال الصهيوني يتجرع المرار ويبدي صمودا كاذبا على أرض الرباط، والقوات الأمريكية منذ احتلال العراق لم تستطع ان تفرض سيطرتها على الدولة حتى الآن وتتكبد خسائر مادية وبشرية هائلة، وفي أفغانستان لا يختلف الوضع كثيراً فلا زال المجاهدين يقطنون كهوفهم وأفكارهم مستقرة في عقول الكثيرين تنتظر اللحظة المناسبة. بعد كل هذا بدا أن الاستعمار الغربي قد تعلم الدرس أخيرا، تعلم أن الأفكار مضادة للرصاص وأن الفِكر لا يهزم إلا بفكر. فحرصوا على زلزال العقول وتشويه عالم الأفكار وزعزعة الموروث الحضاري للأمة، حيث إن الفكر هو البنية التحتية لأي نهضة حضارية. بجانب ذلك حرصوا على أن تِزلّ أقدام الشباب المسلم في وحل الشهوات والتفاهة وسقوط الهمة. ولما ظهرت بوادر الإحياء الإسلامي من جديد، واجتهد المفكرون الإسلاميون في التنظير للفكر الإسلامي مرة أخرى، مستلهمين التراث مراعين ظروف الواقع الجديد، كان الغزو الفكري والثقافي قد آتى أكله، فلم يستطع كثير من المفكرين الخروج من الصندوق. فكانوا يقاومون الغزو الفكري والثقافي للاحتلال الغربي مع وجود أصنام وشبهات فكرية عديدة أثرت على الاجتهاد ظهرت في نماذج وأطروحات فكرية مشوّهة، وحتى من لم يتشوه منهم اجتهد في التأصيل الشرعي لمفهوم الدولة والتعامل معها كأمر واقع وهو أمر لا بد منه. فلا بد من نظام رسمي سياسي ينظم حياة البشر بعد أن تزايد سكان المعمورة. لكن الخطأ في وجهة نظري أن نتعامل مع مفهوم "الدولة" باعتبارها الأساس، فنحاول ترويضها وإضفاء شرعية عليها، فنتحدث عن الشورى وأنها هي جوهر الديموقراطية، وأن الرسول أقام أول وثيقة صلح دبلوماسية وهي وثيقة المدينة، وأن الإسلام يكرس لحرية الرأي ومساءلة الحاكم، ويدعو لحب الوطن والدفاع عنه جهادا في سبيل الله، كل ذلك مهم وضروري. ولكن لا يصح أن يكون هو المنطلق بل ينبغي بناء الأمة أولاً وصنع مجتمع قوي ومنظمات مجتمع مدني نشطلة وفاعلة، ثم تنبثق الدولة من هذا كله. فيأتي المجتمع مسيطرا على الدولة مشرعا لها وليس العكس، وتكون الدولة لها دور رئيس في الدفاع وحفظ الأمن والتنظيم المؤسسي، وللأمة السيطرة على الهوية والحركة الاجتماعية. قلّة قليلة فقط هي من حطمت الأصنام وقامت بالتنظير الحرّ الرافض لسياسة الأمر الواقع. نستلهم في هذا المقال أفكار واحد من أهمهم هو الدكتور رفيق حبيب. في ظل الحداثة الغربية سادت فكرة تؤدي في النهاية للقول بأن الدولة الحديثة تمثل الشكل الأكثر تطورا للاجتماع البشري والذي ينهض بتحقيق التقدم، وأن المراحل التي يسود فيها الشكل الجماعي ما هي إلا مراحل بدائية من التاريخ البشري. فتم الجزم بأن شرط النهوض للأمة هو تغيير نمط بنائها الاجتماعي، وتم فرض نظام الدولة المركزية القابضة قسرا من أعلى. وتبنت النخب المتأثرة بالحداثة مشروع الدولة وسعت في تنفيذه دون استشارة المجتمع فكانت النتيجة النهائية أن قوانين الدولة الحديثة لم تقوّ البنية الاجتماعية للأمة، بل قضت عليها. فأصبحت هذه التعديلات والتشريعات منقطعة الصلة بالبناء الاجتماعي الموروث مما يترتب عليه حدوث ازدواجية بين البنية الاجتماعية وبنية الدولة. هذا الوضع يؤدي لإضعاف كلا الطرفين، فتكون المحصلة بناء مشوها غير فاعل للدولة لأنها منقطعة الصلة بطبيعة المجتمع، وتفكيكا للبنية الاجتماعية الموروثة لأنها لا تملك أدوات التفاعل وتتعرض للتجاهل الرسمي والإعلامي، بل تخطى الأمر ذلك، وكان القمع الأمني العنيف من الجهة أخرى. الأسرة نواة الأمة لا يمكن فهم البنية الاجتماعية للأمة العربية الإسلامية من دون فهم طبيعة ودور الأسرة العربية التي تعتبر كنزا ومزية لا توجد في أي نموذج حضاري غربي حداثي. بل يمكننا أن نعتبر الأسرة بمثابة التكوين النموذجي الذي تقاس عليه بنية الأمة. للأسرة العربية طبيعة خاصة لا تتوفر للأسر في النموذج الحضاري الغربي، فالأسرة العربية كيان تضامني تكافلي ذو مصير مشترك، يتحمل كل فرد مسؤليته تجاه الآخر فيسوده شعور المسئولية العامة، ويتم التعامل معه من قبل المراقبين ككتلة واحدة فهي حالة جماعية يعيشها أفراد الأسرة، فيتم وصف الأسرة -الأسرة ككل- من حيث الثقافة والتعليم والرقي الاجتماعي والمستوى المادي. بينما نجد أن الأسرة في المفهوم الغربي أقرب لشركة تسودها العلاقات التعاقدية. فالزوج والزوجة كل يدفع تكلفة طعامه على حدة، ونسمع مصطلحات ك "المساواة" و"حقوق المرأة" وكأنها معركة بين طرفي الأسرة وصانعي كيانها ومربّي أفرادها، الزوج والزوجة، ونجد الأب يرفض إعالة ولده إذا قارب العشرين وهي مرحلة لها خصائصها النفسية الخطيرة التي تحتاج إلى مصاحبة واهتمام. فيتم التعامل مع الأسرة على هيئة أفراد منفصلين مصيرهم مختلف، يفترق كل فرد عن الآخر بمجرد انتفاء الحاجة. فيسود الشعور الفردي الأناني ويغيب الشعور الجماعي والمصير المشترك. من أهم ما يميز الأسرة المترابطة المتكافلة أنها الوحدة الأساسية لإنتاج القِيَم، فالأسرة العربية هي التي تنقل القيم من جيل لآخر. وبالتالي تقوم الأسرة بدور مهم في تشكيل القيم السائدة في الأمة من خلال التوارث الاجتماعي. وهذا النمط يختلف عن النمط السائد في مشروع الحداثة الغربي، الذي يجعل من وسائل الإعلام والدولة والمؤسسات التعليمية والقانون، المنظم والمتحكم الأول في قيم ومعايير المجتمع الغربي. وعليه يكون التغير في القيم والأنماط السلوكية رهنا بتوجهات المؤسسات المؤثرة على الرأي العام والتي يتم التحكم فيها في المستوى الأعلى من خلال النظام السياسي. فتتبدل القيم بتبدل السياسات! و الأسرة لا تنتج القيم فقط، بل هي توجد وتتماسك بها، وتصبح الهوية والقيم والأخلاق هي الوشائج الرئيسة التي تقوم عليها الروابط العائلية. فإعادة توريث القيمة ليست دورا تقوم به الأسرة فقط، بل هي توجد بالقيمة وتورثها لتبقى الأسرة نفسها فيصبح الحفاظ على القيم والهوية خيار صفري وقضية بقاء ينتفي بانتفاءه الكيان الأسري. ولا يفوتنا أن ننبه على أن التحلل الأخلاقي لبعض الأسر لا يعني تفكك الكيان الأسري، بل هو جزء من الحالة الحضارية الراهنة للأمة ككل. فلا زالت التقاليد العائلية وصلة الرحم أفعال مقدسة تمارسها الأسرة العربية على مناحي عدة. فتظل الأسر كيانات تضامنية ذات علاقات اجتماعية قوية وإن كانت تعاني من تحلل أخلاقي. فسيفساء جماعية تقوم البنية الاجتماعية للأمة العربية الإسلامية على بناء جماعي بوصفه الوحدة الأساسية المنظمة لكيان الأمة. يدل على ذلك الشعور بوحدة الأمة رغم تقسيمها رسميا إلى دويلات. يظل النظام الرسمي رسميا، وربما تسوء العلاقات بين الدول ككيانات رسمية، لكن تظل الشعوب لها شأنها الخاص القائم على التكافل والتراحم ووحدة الشأن العام، ولعل مكانة حزب العدالة والتنمية التركي لدى الشعوب العربية والإسلامية لا تنبع من دوره في النهضة الاقتصادية والاجتماعية بتركيا وفقط، بل من مواقفه الاجتماعية الإنسانية خارج النطاق الرسمي (زيارة الصومال – أسطول الحرية– مؤتمر دافوس– دعم الثورات العربية – زيارة لمصر ومشاريعه بين البلدين). وفي حين يبدو أن تحرير الأراضي العربية والإسلامية كفلسطين مثلاً عمل غير ممكن سياسيا، ويتم التعامل مع إسرائيل كدولة طبيعية من خلال المفاوضات وأوهام السلام، ترى الأمة أن تحرير فلسطين قادم لا محال بالمقاومة والجهاد في سبيل الله، فكان رأي الشعوب أن الثورات العربية هي بداية الطريق لتحرير القدس وزوال إسرائيل. كل ذلك يدل على أن البنية الجماعية الاجتماعية للأمة لا زالت متجذرة في الوعي الجمعي والضمير العربي الإسلامي. إن الإطار الاجتماعي (طبيعة الأمة) يتعامل مع الإنسان ككائن مقدس كرمه الله وفضله على كثير مما خلق تفضيلا، كائن حي روحي لا يخضع للمادة، ويقدس العلاقات الاجتماعية وأواصر القرابة. بينما الدولة تهتم بالمكزية وتحاول أن تحكم قبضتها وتفرض السيطرة على كل مجالات الحياة فتضطر لتجاهل الإنسان وتتعامل معه كرقم (رقم قومي) إذا وجد الرقم فأنت موجود، وإذا انتفى الرقم ينتفي الوجود! وإذا استخرجت له شهاة وفاء خطأ لأي سبب فهو ميت لا محالة وإن كان واقفا بجسمه أمام المسؤول الحكومي. في نموذج الدولة المركزية القابضة الحديثة لا وجود للإنسان الذي نعرفه. فهو ليس سوى أرقام! تكمن قوة الأمة في تقاطع وتداخل انتماءات أفرادها داخل تكوينات اجتماعية تختلف تبعا لاختلاف الرابطة بينها، فأنت فرد في أسرة تراحمية (رابطة الدم والنسب– رابطة حتمية فيما عدا اختيار الزوج والزوجة) وتؤمن بدين (رابطة العقيدة – رابطة اختيارية افتراضا – تصل من القوة بحيث تتجاوز الرابطة العائلية) وتعمل في مهنة (رابطة عملية تتعلق بالحياة العملية) إلى جانب الروابط المكانية (الوحدة الجغرافية والمشترك السكني–حق الجوار). يتبع ذلك انتماءات لحركات سياسية ومؤسسات مجمتع مدني أو مؤسسة ثقافية أو جمعية خيرية. ينتج عن التداخل بين تلك الانتماءات كم هائل من العلاقات الاجتماعية المصيرية المتشابكة. تجعل كيان الأمة جسدا واحدا يشد بعضه بعضا، مما يترتب عنه شعور بالمسئولية تجاه هذا الكيان فأنت به وله. و مع هذا نرى أن هناك تجاهلا للجماعات والتكوينات الاجتماعية، أو الاهتمام بها في الشأن السياسي فقط كدورها في الانتخابات البرلمانية، حيث يظهر لها دور فاعل ومؤثر. فتأثيرها السياسي ما كان ليحدث لولا رصيدها الاجتماعي. الرسمي والعرفي إذا قلنا بأن الجماعات تعاني من التجاهل الإعلامي إلى جانب القمع الأمني الشديد، فإنها كذك تعاني عدم الاعتراف الرسمي من قبل الدولة. فأصبحنا بين نظام رسمي يملك مجال السلطة والسياسة، ونظام عرفي يملك مجال الاجتماع والدين ونظام الحياة. التنحية الرسمية للبنية الاجتماعية للأمة تعرض الجماعات لخطر التهميش والاضمحلال مما يدفع الجماعات لتكون أكثر تقليدية، وربما أكثر جمودا، حتى تحافظ على كياناتها وتقاوم التهديدات المحيطة بها. فتهميشها يجعل دافع التطوير في حد ذاته يتضاءل نتيجة قلة النشاط وتضييق مساحة الفعل المتاحة واقتصارها على النشاط الاجتماعي والعلاقات الإنسانية. وهي مجالات لا تحتاج تطورا فكريا كبيرا ليواكب ظروف العصر، مما يجعل التطوير في غالب الأحيان غير ضروري. نستطيع هنا تصور أن التطور والحركية الحادثة في المجال الديني تنتج لأسباب من أهمها أن النظام الرسمي يفقد السيطرة على المجال الديني تماما. ففي المجمل العام يبقى الدين منطقة محرمة على النظام الرسمي. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع النظام الرسمي أن ينحي دور الدين عن الحياة. وبرغم أن الجماعات والحركات الدينية ليس لها وضع رسمي، لا يحتاج تأثيرها في الفضاء الديني للصفة الرسمية فتصبح الفعاليات الدينية هي الأكثر تأثيرا على المجال الاجتماعي بما في ذلك القيم والأخلاق وأنماط السلوك. وإذا حاولت الدولة تجنيد رجال الدين لترويج توجهاتها تجد أن جمهور الأمة يتعامل مع هؤلاء كجزء من النظام الرسمي ويخرجهم من الفضاء الديني ويحد تأثيرهم فيه. بعد استعراض طبيعة الأمة العربية الإسلامية، وخصائص المجتمعات في تلك المنطقة المميزة من العالم نجد أن مشروع دولة الحداثة الرسمي والمعترف به من قبَل الدولة والذي شغل الجزء الأكبر من تاريخ الأمة المعاصر لم يحقق الحداثة ولا التقدم، إن الحراك المطلوب لأجل النهوض الآن هو الحراك الاجتماعي والثقافي والديني، يتبعه (ولا يسبقه) حراك بكافة المجالات الأخرى. هناك حاجة لنظام يعبر عن الموروث الحضاري، فيسمح لبنية الأمة بالعمل الرسمي، ولا نقصد من هذا أن يضع القانون شكلا رسميا للجماعات بالمعنى الظاهري، بل أن يكون النظام معترفا بالبناءات الجماعية بوصفها من العناصر الأساسية في بناء الأمة، فهي موجودة بغض النظر عن طبيعة النظام أو قوته وضعفه، فيأتي الاعتراف بها إعلانا للأمر الواقع. والاعتراف يعني حق العمل والتأثير المنظم، ويعني أيضا أن البناءات الجماعية تمثل مرجعية يلزم الرجوع لها، ولها حق المشاركة في القرارات والأنظمة حسب وظيفتها وفي ضوء وجودها في الأمة. إن إحياء الأمة رهن بإحياء بناؤها الجماعي.