ما هي الآليات التي يمكن اعتمادها لتكريس ثقافة إعداد قيادات الصف الثاني في مؤسساتنا، وهل صحيح أن القيادة والإدارة لا تورَّث، وهل يعقل أن يستمر بعض الأشخاص في مقاعدهم زهاء ربع قرن كما هي الحال في بعض دول العالم النامي.. ما هي صحة المقولة أن طاقة الفرد القصوى في أي وظيفة لا تزيد على خمسة أعوام.. وهل تغيير الوظيفة أو المركز الوظيفي بالنسبة إلى بعض الناس كفيل بالبدء بحياة مهنية جديدة حافلة بالإنجازات والمشاريع والبرامج.. هذه التساؤلات وغيرها, هي ما حملها خاطري وأنا أتابع مجموعة من المبادرات والمشاريع التي أطلقتها حكومة دبي لإعداد مجموعة من قيادات الصف الثاني. فمع حجم المشاريع الجديدة الهائل.. ومع التوسع المضطرد في استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال, ومع ازدياد رقعة الأعمال, كان لا بد من التنبه إلى أمر هو في غاية الأهمية, إنه الثروة البشرية والقوة التي ستدير هذا الاقتصاد وستشرف على إدارة هذه الأموال. فكيف لهذا الاقتصاد أن ينمو، وكيف لهذه المشاريع أن تدار، وكيف لهذه الأموال من صيانة وحماية وإدارة ذكية؟. وكيف يمكن لمدينة بحجم دبي أن يستمر ازدهارها, وكيف لها أن تستقطب مزيداً من الاستثمارات دونما عنصر بشري مؤهل كفء قادر على إدارة وحماية هذه الإنجازات؟. إن أول ما يلفت الانتباه هو هذه القوة البشرية والطاقة التي استطاعت بناء هذا الكمِّ الهائل من هذه الإنجازات. قد يقول قائل إن القيادة العليا لأي مؤسسة أو منظمة هي من يملك زمام المبادرة، وهي من يستطيع البناء ومن ثم السماح لقيادة جديدة أوْ وَجْهٍ جديد بالظهور. أقول صحيح وصحيح جداً.. ولكن عندما تتوافر قيادة ذكية, يجب ألا نغرقها بالتفاصيل, وتفاصيل العمل اليومي, وحريٌّ بهذه القيادة أن تتفرغ لإطلاق المبادرات والمشاريع, ومن ثم تسليمها إلى جيل جديد وقيادة جديدة. إن الوقت يمضي سريعاً.. وما لم نتعهده بالعمل فلن ندركه.. لذا وجبت دراسة هذه التجربة الناجحة, تجربة إمارة دبي.. وحريٌّ بكل مؤسسة وشركة أن تحذو حذو هذه المدينة, وأن تعمل على تبديد كثيرٍ من الأوهام, فالقيادات الشابة الجديدة, لم ولن تكون إلا مِعْولَ بناءٍ جديد ومعول عطاء جديد, ودماءً وأفكاراً وبرامج ومشاريع جديدة تطل من جديد.. وليس للشباب إلا أن يستفيد من هذا الكمِّ الهائل من الخبرات والتجارب والحكم, وأن ينهل من معين من سبقه, ممن كان لهم الفضل والسبق في العطاء.. ما أروعه من لقاء, أن تجلس إلى مدير إحدى المؤسسات, شاب صغير لا يتجاوز عمره الثلاثين, يشرف ويدير مؤسسةً يتجاوز رأس مالها المليار درهم, ويعمل تحت إدارته أكثرُ من مائتي إداري وموظف, يمتلك من الخبرة العصرية والثقافة الإدارية, ويتفوق على أبناء جيله, ممن تعلموا ودرسوا الفنون ذاتها.. ولعلّ السؤال الإشكالي هنا: كيف لنا أن نثق بقدرات هذا الشاب, خصوصاً إن كانت روح الاستثمار لا تحتمل المغامرة؟ فقرار واحد خطأ أحياناً, قد يجلب للمؤسسة الكوارثَ.. أقول, يجب أن نثق به لأسباب عديدة, أبرزها أن حجم التعليم والتدريب والثقافة السائدة, المتوافرة لأبناء جيلنا من الشباب, أكاد أجزم أنها لم تتوافر لمن سبقنا, وأن حجم ما تنفق دولنا في عصرنا الحديث قد فاق أضعاف ما صُرف من قبل, وأن حجم الفرص والبعثات التي توافرت لأبناء جيلنا لم تتوافر من قبل.. بل إن التقنيات الحديثة وثقافة الإنترنت وال (دي إس إل) قد ساهمت بشكل كبير في زيادة الوعي, وزيادة حجم الآفاق لدى الشباب. وقد أصبحنا نعيش في عالم صغير جداً, وبإمكان أي دولة أو مؤسسة استيراد أي تجربة, وفي أي وقت وبأي لغة تريدها.. لا ريب أن الشباب ممن استغلوا هذه الفرص قد وجدوا ضالّتهم, ووجدوا الملجأ في كثيرٍ من المؤسسات التي سعت إلى استقطابهم والاستثمار في قدراتهم, ومن ثم الاستفادة من إمكانياتهم.. ولعلّ السؤال الأكثر أهمية هو: هل مازالت بعض المؤسسات تخشى الشباب؟ وهل مازال بعض الشباب لا يجدون فرصتهم؟ السؤال بشقيه يدفع بنا إلى الحديث حول ضرورة أن تمنح المؤسسات الحرية للشباب كي يطلقوا العِنان لأفكارهم, ويأخذوا الفرص التي يستحقونها, وأن تسمح لهم بالمشاركة في اتخاذ القرار, وتحمّل المسؤولية والإشراف المباشر على المشاريع المهمة.. ومن مسؤولية المؤسسات نشر ثقافة التحفيز وعدم التربص بالأخطاء وتجاوز الهفوات, وتوافر فرص التعليم والتدريب المستمر للكشف عن مواهب الشباب وإمكاناتهم. وهنا يبرز سؤال آخر: لماذا تخاف بعض المؤسسات من الشباب, في الوقت الذي تستطيع فيه تبديد هذا الخوف وتحويله إلى حب ورغبة صادقة بمنح مزيدٍ من الفرص للشباب عبر السماح لهم بالتجربة؟.. ولماذا لا نبادر بفتح المجال أمام هؤلاء الشباب لاعتلاء أعلى المناصب الإدارية في المؤسسات؟ وبنظرة أخرى إلى تجربة إمارة دبي.. نجد أنها الأبرز في هذا المجال, حيث أتاحت المجال أمام الشباب ليكون لعقولهم ولسواعدهم دور كبير في بنائها, فنجد كثيراً من القيادات الشابة في مواقع مهمة وحساسة, حيث تضطلع هذه القيادات بمواقع القرار, وتشرف على مشاريع هائلةِ التكاليف, وهي بذلك تبني دبي وترسم صورة وجهها المشرق.. إن بعض أصحاب المهن كالخياط أو التاجر أو الحداد.. بمجرد أن يكبر ابنه قليلاً, لا يتركه, بل يبدأ بتعهده وتعليمه أصول المهنة رويداً رويداً.. وبذلك يتخرج الصبي في سنّ مبكرة على يدي والده وبمهارته, وحين نسأل الأب عن ذلك يقول: لا أريد لمهنة آبائي وأجدادي أن تندثر.. ومن هنا نقول للمؤسسات والشركات: لا تتركوا أحلام موظفيكم وتجربة مؤسساتكم وإنجازاتكم أن تندثر.. امنحوا هؤلاء الشباب فرصة الحفاظ عليها.. دربوهم, وعلموهم, وتعهدوهم كما لو أنهم أبناؤكم, فهم بالفعل أبناؤكم, وإخوتكم.. والشباب هم عنوان المستقبل وعدّته, وهم وعد الحاضر وأمله, وعماد بناء الأوطان والمجتمعات.. فإن لم نمنحهم الفرص المناسبة للقيام بدورهم, عندها نكون قد حرمنا أنفسنا من الحصول على قيادات شابة, لا تعرف الخوف, وليس لطموحها حدود, ولا مستحيل في قاموسها.. عنوان عملها هو المثابرة والإصرار.. هكذا تسمح المؤسسات للدماء الجديدة بالجريان في شرايينها, وتكتسب خبرات وتجارب أخرى, وتفتح آفاقاً واسعة لنجاحات نابضة بروح الشباب..