أبرز العوامل التي جلبت نصر أكتوبر هو تمسك الجيش المصري بالدين، على جميع المستويات بدءًا من القيادة العليا ممثلة في السادات الذي دأب على تلاوة آيات القرآن الكريم في خطاباته، مرورًا بقيادات الجيوش واللواءات والضباط، وانتهاءًا بالجندي المصري البسيط الذي اعتاد إقامة الصلاة وقتما أدركته وفي أي مكان.واتضح ذلك بجلاء عندما سميت خطة الحرب ب "خطة بدر"، كما انعكس ذلك التدين على الجنود في صورة تمني الشهادة والرغبة في ما عند الله من أجر الشهيد وأنه خير من الدنيا الفانية. وعلى الضفة الشرقية من القنال كان الجنود اليهود المتدينون يحتفلون ب "يوم الغفران" على أرض سيناء، فلا عجب إذن أن يتمسك أبناء مصر بدينهم ويعودا إلى ربهم ليؤيدهم بنصره.في هذا الصدد، التقت "التغيير" بعدد من الشخصيات التي خاضت المعركة أو التي عاصرتها، لمحاولة الوصول إلى حقيقة دور التدين في تلك الحرب التي امتدت من السادس من أكتوبر 1973 وحتى السادس والعشرين من ذات الشهر. * مسلمون ومسيحيون يتحدثون عن دور الدين في نصر أكتوبر * كيف تحول إشعال الحماسة من أغاني أم كلثوم وعبد الحليم إلى القرآن والمواعظ الدينية * الفنان المسيحي لطفي لبيب: كان هدفنا طرد المحتلين ولم يفرق الرصاص بيننا * الشعراوي وصقر والغزالي نجوم على خط النار * البنا رتل القرآن على أصوات المدافع والانفجارات * قائد الجيش الثاني كان إمامًا لجميع الصلوات * لواء طيار مقاتل ممدوح حشمت: المسيحيون صاموا معنا في رمضان دعاة على الجبهة يقول الدكتور فرحات المنجي – وهو من الدعاة الذين ساهموا في وعظ الجنود- إن هزيمة 1967 رسخت في المصريين أن سببها هو البعد عن الدين لقوله تعالى "قل هو من عند أنفسكم"، لذلك أقبل الشباب عائدين إلى القرآن الذي طالما هجروه. وأردف المنجي: إن الشيخ محمد متولي الشعراوي وعطية صقر وإبراهيم النجار ومحمد الغزالي وغيرهم - رحم الله الجميع- من الشخصيات التي كانت تلهب حماس الشباب على الجبهة فينطلقون بشجاعة لمواجهة المحتلين الغاصبين، وكان مجرد ظهور أحدهم -كالشعراوي مثلا- على خط المواجهة مفعول عجيب في رفع الحالة المعنوية للمجاهدين. العميد على مختار القطان يروي كيف كان الدعاة الأزهريون يعظون القادة والجنود مرددين آيات: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"، وكيف كانت ألسنة الشباب تلهج بسورتي الأنفال والتوبة منذ لحظة العبور . ويروي القطان قصة عاينها بنفسه اللواء أحمد الزمر أحد أبرز القادة العسكريين المصريين في حرب أكتوبر وقائد الفرقة 23 مشاة ميكانيكية استشهد يوم 19 أكتوبر بعدما تصدى للجيش الصهيوني في ثغرة الدفرسوار والتى دخلت منها قوات شارون من شرق القناة إلى غربها، ورفض اللواء أحمد الاستسلام أو الانسحاب وظل يقاوم بنفسه ويحمس جنوده وضباطه، فدمروا عددا من دبابات شارون، حتى استشهدوا فى بطولة نادرة ولم تعبر الدبابات إلا فوق أجسادهم الطاهرة. أما اللواء أحمد رجائي عطيه (قائد المجموعة 39 صاعقة) فيرى أن التمسك بالدين موجود لدى المصريين في كل الأوقات، لأنهم شعب متدين بطبيعته، لكن ربما استطاعت القيادة المصرية أن توظف التدين خلال حرب أكتوبر 1937. وأضاف: كان اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني الميداني خلال الحرب يصلي بالناس جميع الصلوات، وأذكر أنه كان دائمًا يتلوا قول الله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً. الداعية الإسلامي وجدي غنيم التحق بالجيش في أول أكتوبر 1973 أي قبل الحرب بستة أيام فقط ويقول: أبرز ما أذكره في تلك الحقبة أن وسائل الإعلام التي كانت قد اعتادت على أن تطبل وتزمر للحكام ورجال السلطة تحولت لتكرس صيحة الله أكبر في أغانٍ وطنية جادة. أما الحاج حافظ سلامة الذي ارتبط اسمه بالمقاومة الشعبية فيقول: في حرب 1967 كانت القيادة العسكرية تحضر المغنية أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ليحمسوا الجنود للقتال فكانت الهزيمة النكراء، أما في 1973 فكان علماء الأزهر يجوبون القنال من الشمال إلى الجنوب ليحثوا المجاهدين على الشهادة في سبيل الله فكان التوفيق والنصر من عند الله. ويؤكد الحاج حافظ أنه يحتفظ في مكتبة مسجد الشهداء بتسجيل نادر للشيخ محمود على البنا وهو يقرأ القرآن بين الجنود وسط أصوات المدافع والانفجارات وقال حافظ إن مسجد الشهداء كان غرفة عمليات المقاومة الشعبية التي خففت من تأثير ثغرة الدفرسوار التي رصدها الأمريكيون بين الجيشين الثاني والثالث، وأن الشباب المتدينين هم من بدئوا المقاومة بعد أن توزعوا على مداخل السويس مسلحين بالآر بي جي والأسلحة الخفيفة، وخرج إليهم بعد ذلك مئات الشباب . العميد متقاعد محمد لطفي (دفاع جوي) يقول إن القيادة في أكتوبر أدركت حقيقة مهمة، وهي أن العقيدة أو الدافع الديني هو أقوى شيئ يمكنأن يدفع الأشخاص لتحقيق أهداف، أقوى من المال أقوى من السلطة وأقوى من أي شيئ، لا سيما إذا كان التدين فطري عند المصريين، وهذا الذي جعل من صيحة الله أكبر هي شعار أكتوبر، وكان يرددها مائة ألف مقاتل على القنال في وقت واحد. المقدم عبود الزمر الذي خاض المعركة، وكان وقتها ضابطًا بسلاح الاستطلاع التابع للمخابرات الحربية ضمن الفرقة 21 مدرعة تحت قيادة العميد إبراهيم العرابي الذي رقى فيما بعد لرتبة رئيس أركان القوات المسلحة. يقول الزمر: بالنسبة لمظاهر التدين فإنها كانت موجودة بشكل ملحوظ في أعقاب نكسة 1967، وأهم مظاهره هي تركيز القادة والجنود على قضية العبادة بشكل عام، فلا تكاد تبدأ كلمة قائد إلا بالبسملة وآيات القرآن والأحاديث الشريفة، وفي اجتماعات التخطيط للعمليات تسمع ألفاظ التوكل على الله وتقديم المشيئة . وأوضح الزمر أن إدارة الشئون المعنوية تم تفعيل دورها في حرب أكتوبر بعد أن كانت مجرد إدارة على الورق وبلا دور يذكر في حرب النكسة، وكان الواعظون يأتون من الأزهر إلى الجبهة لتذكير الجنود بالشهادة وفضلها والفوز بإحدى الحسنيين (النصر أو الاستشهاد). مشاهدات مسيحي اللواء طيار مقاتل ممدوح حشمت يرى الموضوع من زاوية التضامن بين جميع المصريين مسلمين ومسيحيين في معركة أكتوبر مؤيدًا كلامه بالقول: كان إخواننا المسيحيون في الكتيبة لا يأكلون أمامنا في نهار رمضان، بل ينتظرون حتى وقت الإفطار ليأكلوا معنا مراعاة لمشاعرنا، وكانوا يقفون مع غيرهم في خندق واحد. وقال حشمت: كان قائد سرب الطيران الذي كنت أعمل فيه مسيحي اسمه أموزيس ميخائيل عازر، ولم يتوانى الرجل لحظه عن تعليمي كل شيئ عن الطيران حتى توفاه الله. الدكتور محمد حسن عياد ملازم أول طبيب احتياط خلال حرب أكتوبر 1973 والحاصل على وسام النجمة العسكرية يروي لنا مشاهداته بأرض المعركة فيقول: كنت محاصرًا مع عدد من الجنود بمنطقة كبريت وكان قائد الكتيبة المرحوم العقيد إبراهيم عبدالتواب يصلي بنا جميع الصلوات ويخطب أيام الجمعة إلى أن نال الشهادة وروت دماؤه أرض سيناء الحبيبة. ويضيف عياد: من مظاهر التدين كذلك هو وحدة المصريين على اختلاف دياناتهم في مواجهة العدو المشترك، فمنذ اليوم الأول للمعركة كان معي طبيب زميل مسيحي اسمه صفوت محروس، وعندما قصف العدو نقطة إسعاف الكتيبة قتل مع آخرين وكان بيني وبينه مترين، فالرصاص لم يفرق بين مسلم ومسيحي، وكنا ندرك هذه الحقيقة. الفنان المسيحي لطفي لبيب قضى بالجيش المصري ست سنوات وخاض معركة أكتوبر، وألف كتابا يحوي مذكرات الحرب أسماه "الكتيبة 26" وفي حديثة ل "التغيير" قال لبيب: بالفعل كنا جميعا كمصريين في خندق واحد وهدفنا واحد هو طرد المحتلين ولم يكن الرصاص يفرق بيننا.