الأكثر من ذلك أن مشاكل عام 2008 تبدو في منتهى التعقيد ويصعب حلها بسهولة. ورغم الحديث المطمئن الذي نسمعه أحياناً عن تحقيق المصالحة بين التوجهات السياسية الكبرى في البلاد، سيحافظ الناخبون على انقسامهم مهما كان الفائز في انتخابات نوفمبر المقبلة. ولنتذكر أنه حتى أشد المراقبين انتقاداً لإدارة الرئيس بوش ما كان لهم أن يتوقعوا الأزمات التي ألمت بها في ولايتها الثانية من إعصار كاترينا إلى الحربين المتواصلتين في العراق وأفغانستان وأخيراً فقاعة الإسكان التي عصفت بالمؤسسات المالية للبلاد وتوشك أن تدخلها مرحلة ركود اقتصادي بالغ القسوة، فمن لديه الاستعداد إذن لتحمل هذا الإرث الثقيل؟ وبالطبع طرح هذا السؤال يفترض أن المرشحين لرئاسة الولاياتالمتحدة هم أشخاص عاديون يتمتعون برجاحة العقل وسداد التفكير، فأغلبنا سيتوقف قليلاً قبل إنفاق آلاف الدولارات وقطع آلاف الأميال لتناول العشاء في العراق، حيث الناس ينظرون شزراً لطريقة لباسنا وتسريحة شعرنا، فضلاً عن سلوكياتنا الأخرى. \r\n \r\n وإذا كانت الهزيمة قاسية فإن إدارة النصر قد تكون أكثر قسوة، هذا الوضع الصعب الذي يعاني منه الرؤساء أمام المشاكل، عبّر عنه ليندون جونسون ذات مرة قائلا: \"أن تكون رئيساً شبيها بشخص غبي يقف وسط العاصفة، فليس أمامه حل سوى الانتظار وتلقي الضربات". \r\n \r\n لكن ما معنى أن يرث أحدهم الرئاسة في ساعة أزمة؟ باستحضار التاريخ نجد أن ذلك يعني الدفع في الاتجاه المعاكس لسياسات الرئيس المنتهية ولايته. والحقيقة أن ذلك ينطبق حتى في الفترات الهادئة مثل حرص الرئيس بوش عندما تولى الرئاسة على انتقاد كل ما جاءت به إدارة كلينتون، مشيراً إلى \"ضعفها وعدم فعاليتها، فضلاً عن هفواتها الأخلاقية\". والمفارقة أن بوش الذي يتأهب لمغادرة البيت الأبيض سيخضع للمعاملة ذاتها وستوجه له انتقادات عديدة تسعى إلى تشويه صورته. وبالنظر إلى استطلاعات الرأي التي تؤكد أن 80في المئة من الناخبين يعتبرون أن أميركا تسير في الاتجاه الخاطئ، فليس من الصعب توقع اتخاذ المرشحين، أوباما وماكين، خطاً مغايراً لإدارة بوش، بل والسعي إلى التبرؤ منها وتسفيه سياستها في وسائل الإعلام بأكثر الطرق سخرية وإيلاماً. وحتى حملة الجمهوري ماكين تشير بوضوح إلى أن اللازمة الأساسية التي ستتكرر على امتداد الأشهر الأولى من عام 2009 لن تخرج عن انتقاد بوش والتركيز على أخطائه الكثيرة على كل حال. فمعروف أن عادة القطع مع سياسات الرئيس السابق، قديمة قدم المؤسسة الرئاسية نفسها، ولئن كان من الصعب على جون آدامز ضرب إرث جورج واشنطن بالنظر إلى مرحلته التأسيسية ونيله الاستقلال من التاج البريطاني، فقد كان من السهل على توماس جيفرسون نسف سياسة جون آدمز والابتعاد عنها قدر الإمكان. ورغم أن رئاسة أبراهام لينكولن بدأت خلال أسوأ مرحلة من التاريخ الأميركي، فإنه كان واضحاً في رفضه لسياسات سلفه الرئيس جيمس بوتشانان، مؤكداً أن مناوراته الداخلية هي جزء من الماضي، أما جروفر كليفلاند الذي يعتبر أول رئيس أميركي يخلف رئيسين مختلفين فقد أعلن خلال ولايتيه الرئاسيتين عن بداية جديدة تختلف عما سبقها. وباستثناء رئاسة لينكولين التي شهدت الحرب الأهلية الأميركية لم تعرف رئاسة أخرى مصاعب كتلك التي مر بها فرانكلين روزفلت، حيث غرق النظام المالي في أعنف أزمة يتجاوز حجمها الاضطرابات الحالية، كما شهدت الأنظمة الاستبدادية انتعاشاً منقطع النظير في الخارج وأقفلت بروصة نيويورك تدولاتها. لكن روزفلت أدرك بأن سلفه، هوربرت هوفر، فتح له المجال للتصرف، ففي ذلك اليوم البعيد من عام 1933 الذي ألقى فيه روزفلت خطابه الافتتاحي وسط الأنواء العاتية بالكاد نطق بجملته الخامسة ليبدأ هجومه على \"الخوف\" في عبارته الشهيرة وأطلق حملة شرسة على سياسات هوفر الاقتصادية، مقراً ما أسماه \"الصفقة الجديدة\". \r\n \r\n يتعين على الرئيس الأميركي القادم الجمع بين جرأة روزفلت، وبين تعامل إيزنهاور الحذر، ثم التفاؤل الحالم للرئيس ريجان. \r\n \r\n \r\n \r\n وبعد ذلك بعشرين سنة اتبع الرئيس دوايت إيزنهاور السياسة ذاتها لإزاحة الديمقراطيين من البيت الأبيض وإيقاع الهزيمة بمرشحهم، لاسيما أن أميركا كانت تمر بمرحلة حاسمة من تاريخها. فقد كانت إدارة ترومان الديمقراطية ترزح تحت إخفاقات حرب فيتنام وفضائح أخرى تورطت فيها، بالإضافة إلى اندلاع أزمة الإسكان من جهة وتململ الرأي العام من الديمقراطيين من جهة أخرى، وهكذا تمكن إيزنهاور في عام 1952 من دحر المرشح الديمقراطي فقط بالتعالي على مشاكل الإدارة السابقة وتعهده \"بالذهاب إلى كوريا\". وما أن تقلد منصبه حتى استطاع إنقاذ رئاسته ونجح بأسلوبه المعتدل في استرجاع ثقة الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، كما أن نظافة يده واستقامته الشخصية، منحت المواطنين الأمل في عهد جديد خال من التدخلات السياسية والصراعات الحزبية. وفي غضون سنتين من رئاسة إيزنهاور اختفت العديد من المشاكل التي لاحقت إدارة ترومان، واستقر الوضع في كوريا، كما اندثرت الماكارثية غير مأسوف عليها ليدخل الأميركيون مرحلة جديدة وطويلة من الازدهار والرخاء اللذين استمرا طيلة أواسط القرن العشرين. وبحلول عام 1981 ودخول البلاد أربع سنوات من الركود والإخفاقات الخارجية في عهد الرئيس جيمي كارتر، ظهر رونالد ريجان ليدير ظهره لسياسات سلفه ويتخذ لنفسه طريقاً مختلفاً، فقد غير ريجان السياسة الأميركية ولاقى تعاطفاً كبيراً وترحيباً غير مسبوق من الرأي العام لتمر السنوات الأولى من رئاسته بسلاسة، ما منحه الثقة للوقوف في وجه المطالب النقابية لبعض الفئات العمالية، لكنه في الوقت نفسه مد يده للطرف الآخر واستطاع تحقيق جزء كبير من أجندته وأهدافه المعلنة مثل خفض الموازنة الفدرالية، وتقليص الضرائب ثم رفع نفقات الدفاع. \r\n \r\n ومع ذلك فإن صيغة الانقلاب على الفترات السابقة لم تنجح في جميع الحالات، بل تعثرت في بعضها لعل أبرزها نموذج الرئيس ريتشارد نيكسون الذي تولى الرئاسة في عام 1969 بعد ليندون جونسون ليغرق بعد ذلك في أتون حرب فيتنام وينتهي به المطاف مستقيلًا من منصبه. فقد كانت البداية مبشرة بالنسبة للرئيس نيكسون، وقد عكستها الطريقة المثالية جداً وغير المألوفة أيضاً التي تعاملت بها الصحافة الأميركية معه والصفات الإيجابية التي أسبغتها عليه والراجعة في جزء كبير منها إلى استياء وسائل الإعلام من غرور جونسون ونقمتهم على سياساته الفاشلة التي بدا أن نيكسون جاء ليغيرها. غير أن إخفاقه في إحراز تقدم على مسار حرب فيتنام وتأرجح سياسته بين مطالب السلام وضرب كمبوديا سراً، إضافة إلى عجزه الواضح عن الانقلاب على سياسة سلفه وانتهاج أسلوب مغاير على شاكلة الرئاسات الناججة من قبل... سرّعت فشله وخروجه المبكر من البيت الأبيض. وإذا كان من الصعب قراءة المستقبل والتنبؤ بالرئيس الأميركي المقبل، فالتاريخ يخبرنا على الأقل بأن كل من سيأخذ البلاد بعيداً عن الطريق الذي اتبعه بوش لا شك أنه سيجد رأياً عاماً مرحباً ومتعاوناً. ويبقى الدرس الأهم المستفاد من التاريخ أن النجاح حالة مؤقتة، إذ يتعين على الرئيس المقبل الابتعاد بطبيعة الحال عن إدارة الرئيس بوش، لكن دون أن تتحول الإدارة السابقة إلى هاجس تملي عليه ما لا يجب أن يقوم به، وبدلاً من ذلك يتعين على الرئيس الأميركي القادم الجمع بين جرأة روزفلت وحرصه الدائم على تجريب الأفكار الجديدة، وبين تعامل إيزنهاور الحذر والمتيقظ مع حرب سيئة في آسيا، ثم التفاؤل الحالم للرئيس ريجان. \r\n \r\n \r\n \r\n تيد ويدمير \r\n \r\n كاتب الخطابات السابق للرئيس بل كلينتون \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\" \r\n \r\n \r\n \r\n