لكن التداعيات السياسية على الساحة الداخلية الفرنسية باتت معروفة، ويمكن إجمالها في نهاية ما كان يطلق عليه بالإجماع الفرنسي حول قضايا السياسة الخارجية، تلك السياسة التي كانت إلى عهد قريب توحد المواقف الحزبية المختلفة وتصهرها تقريباً في بوتقة واحدة. ففي ظل السياسات الجديدة للرئيس الفرنسي، سارعت جل أحزاب ''اليسار'' إلى التنديد بالقطيعة التي أحدثها نيكولا ساركوزي مع الموروث الدبلوماسي للجمهورية الخامسة. \r\n \r\n والواقع أن الخلاف القائم حالياً بين قوى ''اليسار'' و''اليمين'' في فرنسا يمس بصفة أساسية العلاقات الفرنسية- الأميركية والمسار الذي ستشقه في المستقبل. ويبدو أن ثنائية اليمين/اليسار وصراعهما الذي اختفى طيلة السنوات السابقة حول السياسة الخارجية، عادت مجدداً لتظهر بقوة بعد صعود ساركوزي إلى السلطة. \r\n \r\n فالغالبية التي تحكم فرنسا في هذه الأثناء والموالية للرئيس تسعى إلى توطيد العلاقات مع واشنطن، في حين تنتقد المعارضة ''اليسارية'' هذا التقارب المتنامي بين ضفتي الأطلسي، معتبرة أنه خيانة للتقاليد الديجولية الفرنسية وخروجاً عن التوافق الذي شكل أساس الإجماع الفرنسي في السياسة الخارجية. والمفارقة اللافتة في هذا التحول الذي شهدته الساحة الداخلية الفرنسية هو ذلك التطور الواضح في مواقف القوى السياسة مقارنة مع تصوراتها السابقة، التي تبلورت خلال سنوات الستينيات. ففي تلك الفترة من تاريخ فرنسا كان الديجوليون منشغلين بإغلاق الأبواب في وجه حلف شمال الأطلسي وحريصين على انتقاد الهيمنة الأميركية. أما ''اليسار'' والوسط اللذان كانا وقتها في المعارضة فلم يفوتا فرصة إلا وعابا فيها على الرئيس ''ديجول'' قطيعته مع التضامن الأطلسي، وانتقدا ''مناهضته لأميركا''. \r\n \r\n المنحى الجديد في سياسة ساركوزي أعاد الخلاف مجدداً بين اليمين و اليسار ، وبعث مرة أخرى بهذه الثنائية القديمة إلى صدارة الحياة السياسية الفرنسية. \r\n \r\n \r\n \r\n وفي كل القضايا الأساسية مثل الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والعلاقات مع الشرق الأوسط، وتحويل فرنسا إلى قوة ردع عسكرية كان الرئيس ''متيران'' والمعارضة ''اليسارية'' في ذلك الوقت تعارضها بحدة. فقد كان ''اليسار'' الفرنسي في سنوات الستينيات ضد خروج فرنسا من حلف شمال الأطلسي، وضد امتلاك فرنسا لترسانة نووية خاصة بها (كانوا يفضلون الحصول على ضمانة نووية أميركية)، كما أنهم اعترضوا على القطيعة الاستراتيجية مع إسرائيل التي قام بها ''ديجول'' بعد حرب الستة أيام. لكن التغيير، أو بالأصح الانسلاخ عن المواقف السابقة ل''اليسار''، بدأ مع نهاية السبعينيات، حيث اعتنق ''اليسار'' عقيدة الردع العسكرية بدعوى الاستقلال الوطني وعدم الارتهان لقوى خارجية توفر الحماية لفرنسا ما دامت هذه قادرة على بناء قدرات عسكرية رادعة. وخلافاً لمطالبها السابقة الداعية إلى التقارب مع واشنطن والمنتقدة لسياسات ''ديجول'' في هذا المجال، شرعت القوى ''اليسارية'' في الابتعاد عن الولاياتالمتحدة والنأي عن سياساتها. وإذا كان ''متيران'' أول رئيس فرنسي يزور إسرائيل، فإنه كان أيضاً أول زعيم غربي يطالب في خطاب ألقاه بالكنيست عام 1982 بإقامة دولة فلسطينية. \r\n \r\n وبحلول الثمانينيات كانت جميع التشكيلات السياسية الممثلة في البرلمان الفرنسي تشترك في مواقفها حيال القضايا الأساسية في الدبلوماسية الفرنسية، بما في ذلك الحزب الشيوعي قبل أن يعود ويفترق عن الحزب الاشتراكي في بعض تصوراته للسياسة الخارجية. وفي هذه المرحلة التي شهدت انسلاخاً ''يسارياً'' عن جلده القديم، بدأ الحديث عن تشكل إجماع وطني فرنسي تجاه القضايا الخارجية، وذلك خلافاً للفروق الكبيرة التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي بين ''اليمين'' و''اليسار''، وهو ما شكل خروجاً غير مألوف عن تقاليد الصراعات الحزبية الراسخة في فرنسا. وهكذا تبلور الإجماع الداخلي بين الأحزاب المختلفة حول قضايا مهمة من قبيل عقيدة الردع الفرنسية، والعلاقة مع حلف شمال الأطلسي، بعدما أصبحت فرنسا حليفاً دون أن تنضم إلى هياكل ''الناتو''، وإصرارها على الاستقلال في مواقفها عن واشنطن. وفيما يتعلق بأوروبا اتفقت الأحزاب الفرنسية وأجمعت على ضرورة بناء أوروبا قوية تساهم في بروز عالم متعدد الأقطاب، فضلاً عن تأكيدها على التطلعات السياسية والاقتصادية لدول الجنوب في علاقتها مع دول الشمال. ووصل الإجماع الوطني الفرنسي ذروته عندما صوت البرلمان بالإجماع على المشاركة في الحرب على العراق عام .1991 \r\n \r\n بيد أن اختفاء الصراع الثنائي بين القطبين العالميين مطلع تسعينيات القرن الماضي، أعاد خلط المواقف الداخلية في فرنسا على أسس جيوسياسية جديدة. لكن مع ذلك ظلت الاختلافات داخل الهياكل الحزبية الفرنسية ولم تتجاوزها إلى صراعات بين الأحزاب نفسها. فقد كان معروفاً وجود مناصرين لخط ''ديجول-متيران'' سواء داخل الحزب اليميني، أو في أوساط اليسار، وهو الخط القائم على مبادئ الجمهورية الخامسة التي تسعى إلى الحفاظ على الخصوصية الفرنسية في السياسة الخارجية. وكان هؤلاء يعارضون ''الأطلسيين'' الذين يركزون في خطابهم السياسي على وحدة الأسرة الغربية ويدعون إلى مزيد من التقارب مع واشنطن. وجاءت الفترات اللاحقة من التعايش المشترك تحت قبة البرلمان الفرنسي لترسخ بين الإجماع بين ''اليسار'' و''اليمين'' وتُآلف بين معتنقي التصورين معاً لتنحصر الاختلافات داخل الأحزاب وتضمن بالتالي استمرارية الإجماع الفرنسي الداخلي فيما يتصل بالقضايا الدبلوماسية الاستراتيجية. لكن هذا الوفاق التقليدي بين الأحزاب الفرنسية والحساسيات السياسية المختلفة، بدأ يشهد تململاً واضحاً في الفترة الأخيرة ساهمت فيه خطوات التقارب الحثيثة للرئيس ساركوزي تجاه الولاياتالمتحدة من جهة، وتصلب سياساته الداخلية من جهة أخرى. هذا المنحى الجديد في سياسة الرئيس أعاد الخلاف مجدداً بين ''اليمين'' و''اليسار'' إلى واجهة الأحداث وبعث مرة أخرى الثنائية القديمة إلى صدارة الحياة السياسية الفرنسية. \r\n \r\n \r\n \r\n