\r\n وفي حين يميل معظم الأميركيين إلى التقاط مؤشرات العناد والمخاطر الكامنة وراء هذا العداء الروسي، يرى الروس أن سلوكهم الذي لا يروق لواشنطن، هو رد فعل طبيعي على جهودها التخريبية الساعية لتقويض نظام الرئيس فلاديمير بوتين، وإلهاب \"الثورات الملونة\" في الجمهوريات السوفييتية السابقة، والتي لا تزال موسكو تنظر إليها على أنها أكثر الدول المستقلة، جواراً وقرباً لها. وفي ردة فعل منها على مشروع الدرع الصاروخية الذي تزمع الولاياتالمتحدة الأميركية تنفيذه في كل من بولندا وجمهورية التشيك، صرفت موسكو النظر عن معاهدة التسلح التقليدي في القارة الأوروبية. أما التهديدات الأمنية التي بررت بها واشنطن نشر الدرع الصاروخية، فلا تزال مبهمة وغير مقنعة. \r\n \r\n هذا ويعكس الغضب الأميركي على موسكو اعتقاداً عاماً بأن الولاياتالمتحدة منحت الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، كل ما احتاجته بلاده من مؤسسات ديمقراطية ونظام رأسمالي على الطراز الأميركي، لحظة انهيار الدولة الشيوعية في مطالع التسعينات. لكن في الجانب الآخر، فإن نظرة عامة المواطنين الروس إلى فترة يلتسن تلك، كما عكستها آخر دراسات استطلاع الرأي العام الروسي، وقد أجرتها مؤسسة غربية مختصة ونشرت نتائجها في بروكسيل خلال شهر فبراير الماضي، كانت أنها الفترة \"الأكثر ظلاماً\" في التاريخ الروسي الحديث، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب ارتفاع معدلات البطالة فيها إلى أرقام غير مسبوقة، وبسبب ارتفاع نسبة الفقر خلالها، إلى جانب كونها فترة سادت فيها ممارسات \"رأسمالية النهب\". \r\n \r\n وعلى نقيض عهد يلتسن، فقد بدا عهد حكومة بوتين في عيون الكثير من المواطنين الروس، على أنه عهد تمكنت فيه روسيا من استعادة النظام وسيادة القانون مجدداً، فضلاً عن المساعي التي بذلتها في تحقيق نوع من العدالة والأمن الاقتصاديين للمواطنين، إضافة لاستعادة الهيبة الروسية المضاعة في عهد يلتسن. \r\n \r\n وحذر مؤلفو الدراسة المذكورة، من أن توازن القوى الدولي قد تغير باتجاه إضعاف الولاياتالمتحدة الأميركية وليس تعزيز قوتها الدولية. وهذا هو عين ما أكده \"سيرجيي كاراجنوف\"، عميد كلية الاقتصاد الدولي والشؤون الخارجية، بجامعة موسكو الحكومية، في دراسة نشرت له في بداية شهر يوليو المنصرم في \"الغازيته\" الروسية. وعلى حد قوله، فقد دخلت كل من روسياوالولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا مرحلة جديدة وخطرة، حلت محل النهوض الرأسمالي الأميركي الكبير الذي شهدته فترة ما بعد تسعينات القرن الماضي. \r\n \r\n وبما أن روسيا قد تصدت لمناهضة \"الإمبريالية الجديدة\"، فقد تم حذف موسكو من قائمة عواصم الدول الديمقراطية، وجرى تصنيفها، في القاموس الغربي نفسه، ضمن الأنظمة الشمولية المستبدة. وعلى نقيض ما كان عليه الحال في العهد السوفييتي، حيث عُدَّ المواطنون الروس ضحية للنظام الاشتراكي الشمولي الحاكم، فإن الغرب يلقي اليوم باللائمة على المواطنين الروس أنفسهم، لكونهم يؤيدون نظام بوتين بمحض إرادتهم ويمنحونه ثقتهم وأصواتهم الانتخابية. وبالنتيجة فقد حرمت روسيا من الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، بينما تعثرت مفاوضات بولندا الخاصة بالتحاقها بعضوية الاتحاد الأوروبي. ومهما يكن فإن موسكو لا تزال تتمنع على الاندماج مع الغرب وفق شروطه هو، طالما أن المقصود من هذه الشروط، تكريس دونية روسيا في موازاة الغرب. ورغم أن هذا الأخير لا يزال يحتفظ بنظرته التقليدية إلى روسيا كدولة مستضعفة مكسورة الجناح، فالحقيقة أن الولاياتالمتحدة أيضاً أضعفت نفسها ومكانتها، بسبب أخطائها الفادحة في العراق، وبسبب رعونة سياساتها الخارجية، وضعف استراتيجياتها العسكرية المتبعة حالياً. وبسبب هذه الانتكاسات التي أصابت أميركا، فقد لحق الضرر البالغ ب\"قوتها الناعمة\" التي كانت مصدر تفوق وعظمة لها ذات يوم، بينما كبّدها العراق من الأذى والضرر، أكثر بما لا يقاس مما فعلت بها حرب فيتنام. \r\n \r\n وفي مقابل هذا الضعف الأميركي البادي، صعدت وتنامت القوة الروسية إلى حد مكّن موسكو من استعادة سيطرتها على مواردها التي كانت قد انتقلت منها لصالح الشركات الغربية، بموجب \"العقود الاستعمارية\" التي أبرمت في فترة ما بعد العهد السوفييتي. وربما أصبح في مقدور موسكو الآن إبرام صفقة استثمارية عملاقة مع أوروبا في مجال الطاقة، يتم بموجبها تبادل حصول القارة على منتجات الطاقة الروسية، بفتح الأبواب الأوروبية أمام شبكة إمدادات الطاقة الروسية. وبذلك تصبح روسيا، عملاقاً يحسب له ألف حساب في أسواق الطاقة الأوروبية. لكن المفوضية الأوروبية في بروكسيل لا تزال تتمنع عن المصادقة على صفقة كهذه، مما يترك أوروبا رهناً للولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها الكاملة في مجال الطاقة. لكن آن للغرب أن يدرك حقيقة أن شركاته لم تعد هي المهيمنة في مجال الطاقة بأية حال. فخارج أوروبا ومنطقة شمال أميركا إجمالاً، تهيمن شركات الطاقة التي تديرها حكومات وأنظمة معادية للولايات المتحدة الأميركية في غالبها الأعم. وهاهي قواعد اللعبة قد تغيرت، بينما تحتل موسكو موقعاً مركزياً لها في الحلبة الدولية الجديدة. \r\n \r\n ويليام فاف \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع \"تريبيون ميديا سيرفيز\" \r\n \r\n