فأنت قلما تقابل أحدا يؤيد التعذيب، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك الآلاف الذين يعذبون كل يوم. والحقيقة أن موضوع التعذيب ليس من الموضوعات المباشرة أو التي يسهل تناولها. \r\n ولقد اكتشفت ذلك للمرة الأولى عندما كنت لا أزال ملازماً شاباً قليل الخبرة أؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية في جزيرة قبرص، حيث كانت قواتنا تخوض حرباً في ذلك الوقت ضد ثوار منظمة ''إيوكا'' القبرصية التي كانت تعارض وجودنا في الجزيرة. ففي إحدى المرات تلقينا بلاغا بأنه قد تم وضع قنبلة داخل حائط حجري، يمتد في طريق كانت فصليتي تقوم باستخدامه بشكل دائم. إثر ذلك قمنا بإلقاء القبض على بعض المشتبه بهم من القبرصيين وتفتيش الجدار والمنطقة القريبة دون فائدة تذكر. في ذلك الوقت خطر على بالي أن قيامي بممارسة ضغط بدني زائد على المشتبه بهم من أجل إجبارهم على الاعتراف وإنقاذ حياة زملائي من الجنود الشبان، قد لا يكون إجراءً خاطئاً. \r\n كان محافظ قبرص في ذلك الوقت هو السير ''هيو فوت'' الذي ذهب بعد ذلك للأمم المتحدة ورعى عملية إصدار قرار مجلس الأمن رقم 242 الخاص بالصراع في الشرق الأوسط. كان السير ''فوت'' في ذلك الوقت مصمماً على عدم وجوب لجوء البريطانيين في الجزيرة إلى التعذيب، على الرغم من حملة الإرهاب التي كان ثوار ''إيوكا'' يشنونها ضد قواتنا هناك. وفي إحدى الليالي وبينما كانت إحدى العمليات العسكرية مستمرة هناك، ورد إليه تقرير أن بعض الشهود الذين كان يتم التحقيق معهم كانوا يتعرضون للتعذيب. وعلى إثر ذلك قام السير فوت والقائد البريطاني المسؤول في الجزيرة بالتوجه إلى القرية التي سمع أن التعذيب قد وقع فيها مع الساعات الأولى من الفجر، ودون إنذار مسبق. وعندما وصلا إلى هناك تحدثا إلى الشهود ولم يريا أي دليل على حدوث سوء معاملة. إن زيارة خاطفة مثل هذه لم تكن ضمانا ضد حدوث تعذيب وحشي فيما بعد، ولكن حقيقة أن المسؤولين البريطانيين الكبيرين في ذلك الوقت قد ذهبا إلى هناك على الفور للتحقيق في واقعة محددة، كان أكثر تأثيرا على قواتنا الأمنية هناك من كل الأوامر المكتوبة التي تحظر التعذيب. \r\n لقد فكرت في هذا النموذج من نماذج القيادة، عندما بدأت التقارير المتعلقة بوقائع التعذيب في سجن ''أبو غريب'' العراقي تظهر تدريجيا إلى العلن وذلك قبل أن يتم في النهاية تحميل مجموعة من الجنود صغار الرتبة مسؤولية ما حدث هناك، على الرغم من أنه كان واضحا أن الانطباع الخاص بأن قواعد المعاملة العادية للمساجين لم تكن تنطبق على معتقلي ''أبو غريب''، قد انتقل من أعلى إلى أسفل أي من القادة إلى الجنود صغار الرتبة وهو ما تجاهلته سلطات التحقيق الأميركية التي تولت التحقيق في تلك الانتهاكات. \r\n وقد حظي موضوع التعذيب باهتمام كبير من الصحافة البريطانية في الآونة الأخيرة. فأوروبا كلها كانت تطالب أميركا بتقديم إجابة عن استفساراتها المتعلقة بما كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ''سي.آي.إيه'' تقوم به من ممارسات في نطاق حربها ضد الإرهاب في أوروبا، بما في ذلك إقامة سجون سرية في شرق القارة. وأنا شخصيا واثق من أن كلا من البنتاجون وال''سي.آي.إيه'' قد اتفقا على اتباع قواعد أكثر صرامة في استجواب المشتبه بهم بعد الحادي عشر من سبتمبر ،2001 وأنهما كانتا تتجاهلان معاهدات الأممالمتحدة المتعلقة بهذا الشأن. وقد قامت الدكتورة كوندوليزا رايس والمستشارة الألمانية الجديدة ''ميركل'' بمناقشة هذه الموضوعات عندما التقتا في برلين في السادس من ديسمبر الجاري. وكانت المستشارة الألمانية أكثر حزماً مما كان متوقعاً من قبل وزيرة الخارجية الأميركية، وأصرت على أنه أثناء قيادتها لألمانيا فإن السياسة الخارجية الألمانية ستكون ذات أساس أخلاقي. \r\n وفي بريطانيا وفي الثامن ديسمبر الجاري أيضا، قامت المحكمة العليا التي تمثل أعلى سلطة قضائية هنا، بإصدار حكم بالإجماع، يعد علامة بارزة في تاريخ القضاء البريطاني، يجرم استخدام التعذيب في الحصول على الأدلة. وفي بعض الدوائر تم النظر إلى ذلك باعتباره ضربة أخرى توجه إلى الحكومة البريطانية الحالية في نطاق حربها ضد الإرهاب، وفي دوائر أخرى تم النظر إليه على أنه كان إجراء سليما وشجاعا من جانب السلطة القضائية البريطانية لحماية حقوق الإنسان الخاصة بمواطنيها. \r\n وقد قام اللورد بينجهام بإلقاء بيان رائع ومشجع جدا تأييدا للقرار الصادر من المحكمة العليا في هذا الشأن قال فيه: ''إن القانون البريطاني العادي قد نظر إلى التعذيب وما ينتج عنه بنفور واشمئزاز لما يزيد على 500 عام من الزمان. وهذا النفور والاشمئزاز تشاركنا فيهما الآن 140 دولة من الدول التي وافقت على معاهدة منع استخدام التعذيب. لقد شعرت بالدهشة بل ويمكن القول إنني قد شعرت بالفزع إلى حد ما بسبب ما لاحظته من تلميحات تشير إلى أن تقليدا راسخا والتزاما دوليا، قد تم الالتزام به بجدية ووضوح كاملين من قبل دول العالم، يمكن أن يتم نقضه بواسطة قانون وقاعدة إجرائية لدولة لا ترى غضاضة في أن تقوم بتعذيب أشخاص من أجل انتزاع اعترافات منهم. \r\n ولعلنا نتذكر أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قد أدلى عقب تفجيرات السابع من يوليو التي وقعت ضد شبكة المواصلات في لندن بتصريح قال فيه إن قواعد اللعب فيما يتعلق بالتعامل مع الإرهاب ''قد تغيرت'' ولم تعد مثلما كانت من قبل. \r\n وشعرت بالراحة أيضا بعد أن استمعت إلى الكلمات البليغة التي أدلت بها السيدة شامي تشاكرابارتي مديرة ''مؤسسة الحرية'' التي قامت، ومعها أثنتا عشرة مؤسسة أخرى، بإرسال رسالة إلى المحكمة البريطانية العليا جاء فيها ما يلي: ''إن استمرارنا في نزع طبقات الحماية من التعذيب طبقة من بعد طبقة هو الضمانة الوحيدة التي يمكننا بها أن نتأكد من أن قيمنا الديمقراطية هي التي ستسود في النهاية''. \r\n في أي ديمقراطية من الديمقراطيات، يجب تحقيق درجة من التوازن الدقيق (على أن تتم بعد ذلك المحافظة عليه) بين الحاجة إلى محاربة الإرهاب، وبين حماية حقوق الأفراد. وفي رأيي أن الحكومة البريطانية تواجه إلى حد ما حالياً خطر الانزلاق إلى الطريق الأميركي وهو الطريق الخطأ. والحكم الصادر من قبل المحكمة العليا البريطانية بتحريم التعذيب كان في رأيي تصحيحاً مفيداً لهذا الخطأ. \r\n