ففي بداية الخمسينات تصور نهرو حين أصبح أول رئيس لوزراء الهند وحمل مشاعر وأهدافاً تقاوم الاستعمار أن الهند والصين ستوحدان جهودهما وتتحولان إلى قوة موحدة. وكان الزعيم والمفكر السياسي الهندي نهرو يأمل أن يشكل البلدان نموذجاً لفكرة أطلق عليها «الآسيوية». وكانت رؤية نهرو هذه تعتبر أن الأمتين الهندية والصينية ستعملان على تسهيل إعادة إبراز واكتشاف اعتزاز آسيا بموقفها ومكانتها بعد السنوات الطويلة التي عاشت خلالها الأمتان في ظل هيمنة الغرب وأفكاره. وكانت تحرك نهرو وتدفعه نحو هذه الرؤية عوامل التاريخ الموازي والمقابل لعظمة آسيا الخالدة في الماضي والتي تمثل الأمتان الصينية والهندية في ذلك التاريخ معاً تجسيداً فريداً «لحضارتها الحقيقية» وقدرة تتمكن من إعادة بعث تلك العظمة من جديد. أما أوروبا فلم تكن بنظر نهرو سوى أمة في طريقها نحو الضعف. فقد سجل في كتاباته: «أننا نرى نهاية حضارة هناك وبدايات حضارة آسيوية أخذت تتطور إلى الواقع الذي تشكله الآن. ونحن نرى في الصين الدرجة العالية نفسها التي تتمثل في استمرار الثقافة والحضارة اللتين لم تتوقفا في أي مرحلة، وهذه الثقافة الآسيوية كانت قادرة على امتصاص الغزاة البرابرة وتعليمهم ونقل الحضارة لهم رغم أنهم جاءوا للسلب والنهب». وبدا لنهرو أنه إذا تعين على الهند والصين العمل معاً، فسوف يحققان نهضة وانبعاثاً وتتحقق لهما مكانة مركزية على المسرح العالمي ويتمكنان من توسيع نفوذهما ومثالهما في كل أنحاء العالم. \r\n \r\n \r\n نهاية الحلم والرؤية \r\n \r\n لكن التطورات التي وقعت عام 1962 حين اندلعت حرب النزاع على الحدود بين البلدين جعلت حلم نهرو يتحول إلى رماد. وزاد جورج فرنانديز وزير الدفاع الهندي (الطين بلة) عام 1998 حين أعلن أن «الصين هي الخطر رقم واحد بالنسبة للهند». وكانت الهند في ذلك العام تجري تجارب على التفجيرات النووية. وهكذا ذهبت كلمات نهرو وحلمه في مهب الريح في تلك الفترة. لكن الواقع بدأ يتبدّل الآن وربما تتحول نبوءة نهرو ورؤيته إلى حقيقة لأن ظاهرة نهوض الصين والهند في السنوات العشر الماضية الأخيرة أخذت تشير إلى بداية نظام عالمي جديد. وفي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2003 صدر عن غولدمان زاكس تقرير يتوقع أن يصبح اقتصاد الهند والصين في السنوات الأربعين المقبلة إذا ما أضيف إليه اقتصاد البرازيل وروسيا أكبر من اقتصاد الولاياتالمتحدة وألمانيا واليابان وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعة. فالصين من المقدر أن تتجاوز قدرتها الاقتصادية اقتصاد الولاياتالمتحدة الذي يعد أكبر اقتصاد في العالم، وسوف تحتل الهند مرتبة أكبر ثالث قوة اقتصادية بعد الصين وأميركا وستتفوق في إنتاجها على الدول الصناعية الأخرى وتسيطر من خلال هذا الدور على العالم. ويبدو أن الصين والهند بدأتا تدركان بعد فترة العداء المزمن في علاقاتهما ما يمكن لهما تحقيقه معاً في هذا العالم. وإذا كانت القوى الأخرى تتنافس على كسب كل واحدة منهما، فإنهما لا تجدان في النهاية على ما يبدو سوى مساعدة كل واحدة منهما للأخرى وتقوية بعضهما البعض. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n التعاون في الطاقة \r\n \r\n ربما يصبح من الممكن قريباً أن ينتقل التنافس القائم بين الدولتين في ساحة امتلاك الطاقة والحصول على النفط إلى تعاون مثمر بينهما بسبب الضرورة. وقد ظهر تفهم هذه الحاجة واضحاً منذ وقت قريب جداً عندما لم تنجح شركة النفط الهندية التي تديرها الحكومة بالفوز بمناقصة في قازاخستان أكبر ثالث دولة منتجة للنفط وفازت بها الصين. وفي أعقاب خسارة الهند أعلن ماني شانكار أيار أن ضياع هذه الصفقة من يد الهند يسلط الضوء الآن على ضرورة أن تتبنى الصين والهند أفكاراً للتعاون في أي مناقصات نفطية لمصلحة البلدين بدلاً من اللجوء إلى التنافس. وتبين بعد هذه التجربة أن مذكرات تفاهم بين شركات الهند النفطية والشركات النفطية الحكومية الصينية سيجري توقيعها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2005 المقبل حين يقوم وزير النفط الهندي بزيارة بكين. كما تقرر أن تقدم الهند ما لديها من خبرات للصين في ميادين تكنولوجية تشعر بكين أنها بحاجة إليها. وسوف تقوم الصين بالمقابل بتزويد الشركات الهندية بخبراتها في ميدان تطوير البنى التحتية الصناعية. وبما أن الصين تعاني من ضعف في خبرات المصادر البشرية في ميدان الإدارة، فقد اتجهت إلى تطوير الخبرات المرتبطة بإعداد البنى التحتية، وهذا ما سوف يفيدها عند التعاون مع الهند في تقليص ضعفها في مجال الإدارة. وفي ميدان النشاط القائم في اجتماعات منظمة التجارة العالمية وجدول أعمالها تعزز التعاون الصيني الهندي وأكد على نوع من التضامن بينهما من أجل تحقيق المصالح المشتركة. وظهر أنه حين تتوحد جهود الهند والصين وعدد من الدول الصناعية الأخرى تتوفر عند ذلك نتائج مثمرة تعزز التعاون بين نيوديلهي وبكين وهذا ما حدث في الاجتماعات التي عقدتها منظمة التجارة العالمية في الدوحة في عام 2001 وفي عدد آخر من الاجتماعات الدولية. وفي الصناعات النسيجية أدركت الدولتان أن العمل المشترك في هذا المجال المهم وفي ميدان صناعة الملابس أيضاً يؤدي إلى تزايد وجودهما في السوق الدولية ولا يؤثر على أي من المصالح القومية لكل منهما بسبب تبادل المنافع الناجمة عن التعاون المتعدد في هذه الصناعات. فكل دولة أصبحت متخصصة وشهيرة بأحد أنواع الصناعات النسيجية من دون أن تنافسها الدولة الأخرى. وبسبب هذه التطورات المستمرة بين الدولتين يبدو أن رؤية نهرو حول الشخصية الآسيوية التي يمكن للصين والهند بناؤها حضارياً وصناعياً ستمضي في طريقها في هذا العصر. وبعد خمسة عقود على موته أصبحت الدولتان تدركان جيداً أن التعاون بدلاً من القتال والنزاع سيوفر لهما مكانة يعتزان بها وتتحقق مصالحهما من خلالها في المجتمع الدولي الذي تنبأ بظهوره منذ فترة طويلة. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن نبوءة نهرو تحتاج الآن إلى توضيح لا بد من التطرق إليه، وهو أن الزعيم الهندي كان يأمل أن تؤدي العلاقات الروحية والثقافية ونفوذهما عند الشعبين الصيني والهندي إلى تحقيق هذا التعاون والتضامن الآسيوي. لكن الهند والصين اليوم تتجهان نحو التعاون وهما مختلفتان من النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية لأن أساس التعاون القائم بينهما يستند إلى الضرورات الاقتصادية وهي لا تقل أهمية في هذا الاتجاه. ومن المثير للإعجاب أن نهرو تحدث عن اليابان في كتاباته بسلبية لأن شعبها انصهر وذاب في الاهتمامات المادية وتحقيق السيطرة الاقتصادية العالمية بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. لكن نبوءة نهرو في هذا التعاون الحضاري والروحي بين الصين والهند أو الاقتصادي المشترك في هذا العصر ولّدت تنافساً واضحاً بين روسياوواشنطن تجاه الدولتين منذ فترة طويلة تجددت طرقه بعد فترة الحرب الباردة. وهذا التعاون الصيني الهندي وما تحمله نبوءة نهرو يتعارض كلياً مع الاستراتيجية الأميركية وأهدافها في منع ظهور أي قوة عظمى تنافس الولاياتالمتحدة على الساحة العالمية وتهدد مصالحها. أما روسيا فتحاول بعد الضعف الذي دب فيها منذ انهيار كتلتها الاشتراكية التعويض عما فقدته من قوة ونفوذ عن طريق التحالف مع الصين ضد الهيمنة الأميركية المتزايدة. ووسط هذه الدول العملاقة الثلاث تجد الهند نفسها بين خيارات عدة لأن الولاياتالمتحدة تريدها قوة تنافس الصين بدعم أميركي وتخدم مصالحها في آسيا التي تخيف التطورات فيها اليابان وكوريا الجنوبية وباكستان وهي الدول الحليفة للولايات المتحدة والتي تشعر بالحاجة إليها. ويبدو أن آسيا في النهاية تحولت الآن إلى ساحة التنافس الأميركي الروسي الأوروبي من جهة وساحة التنافس الصيني على كسب الحلفاء من داخل القارة نفسها. فمن مصلحة الصين تحقيق تعاون مع الهند ينأى بقادة الهند عن الولاياتالمتحدة بقدر ما هو ممكن مثلما من مصلحة الهند إبداء التجاذب مع مختلف القوى العالمية من أجل مصالحها أيضاً. ولا شك أن ملعب التنافس بين هذه الدول وهي كبرى نسبياً حساس وخطر لأنها نووية لهذا الحد أو ذاك، ولعل هذا ما دفع الولاياتالمتحدة إلى إبداء الرغبة بتطوير التكنولوجيا الهندية النووية تحت إشراف أميركي. فجدول العمل الأميركي الاستراتيجي في آسيا حافل بقضايا ومواضيع كثيرة أهمها حماية حلفائها في اليابان وكوريا الجنوبية وباكستان وتايوان وتوسيع نفوذ هذا الحلف على غرار حلف الناتو في أوروبا. وتجد الصين أن موضوع تايوان سيشكل خلال السنوات المقبلة مصدر توتر تسعى واشنطن إلى محاصرة الصين فيه وعزلها عن الانتشار خارجه، ولذلك يصبح من الطبيعي أن تتجه بكين نحو روسيا والهند. وتمثل روسيا للصين مصدراً للحصول على الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا النووية أو العسكرية الحديثة، وتمثل الهند بالنسبة للصين دولة تستدعي المصالح الصينية والآسيوية إما تحييدها عن أي صراع أميركي صيني أو كسبها كسوق اقتصادية وكقاعدة تعاون مشترك لمستقبل جديد في آسيا. وتتحدث التقارير التي تصدر عن مراكز الأبحاث الاستراتيجية الروسية والأميركية عن ازدياد متسارع لاهتمام الصين بالأسلحة الروسية التي تشكل الخيار الوحيد للصين كسوق لبيع السلاح رغم أن أوروبا أتاحت في الآونة الأخيرة فرصة بيع أسلحة للصين بعد الإعلان عن رفع الحظر الأوروبي عليها. وفي هذا الصدد ذكر تقرير «المركز الروسي للأبحاث الاستراتيجية والتكنولوجية» في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي أن الصين تشكل أكبر مستورد للأسلحة الروسية التي صنعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وتبين من التقرير أن ما بين 30% إلى 50% من مبيعات الأسلحة الروسية يتجه نحو الصين. وتؤكد مصادر روسية أن عائدات بيع الأسلحة للصين تقوم الحكومة الروسية باستخدامها لتطوير المزيد من الصناعات العسكرية والتكنولوجية الحربية ولولا قدرة الصين على دفع ثمنها لانخفضت مستويات تطور الأسلحة الروسية. ففي عام 2004 اشترت الصين أسلحة من روسيا بقيمة (1،4) مليار دولار، وفي عام 2003 اشترت ب (1،5) مليار دولار. واشتملت هذه المشتريات على الطائرات المقاتلة الحديثة والسفن الحربية والتكنولوجيا القتالية المتطورة. وفي صيف عام 2004 كانت الصين بموجب تقرير نشرته مجلة (جينز) الأسبوعية العسكرية قد اشترت ثمانية أنظمة صواريخ و(24) طائرة حديثة من نوع سوخوي (30) (MKK). وتحاول الصين تنويع مصادر مشترياتها للحصول على أكبر قدر من التكنولوجيا العسكرية، ولم يكن مستغرباً أن تشتري من أوكرانيا عدداً من المحركات المهمة لطائرات التدريب القتالية وعدداً من طائرات أنتونوف الثقيلة الروسية القادرة على حمل أطنان هائلة من الذخائر والسلاح والتحليق بها إلى مسافات بعيدة. وكانت شهية الصين لامتلاك المزيد من الأسلحة قد انفتحت لشراء أسلحة حديثة أوروبية بعد أن قررت بعض الدول الأوروبية رفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين. \r\n \r\n \r\n الهند والصين والنفط والغاز \r\n \r\n تدرك الهند مثلما تدرك الصين أيضاً أن تطورهما المتسارع سيستدعي زيادة متسارعة في حاجتهما للنفط والغاز والطاقة وهو ما أصبح الشغل الشاغل في جدول اهتماماتهما. ولعل ما يمكن أن تقدمه الصين في المستقبل للهند لن تستطيع الولاياتالمتحدة تقديمه للهند. فالنفط الذي تسيطر الولاياتالمتحدة عليه في الخليج وبعض مناطق العالم سيوفر الطاقة لحلفائها الأساسيين مثل اليابان وكوريا الجنوبية ولن تتوفر منه مقادير تساعد الهند على حل هذه المشكلة. أما الصين فعلى الرغم من حاجتها المتزايدة للنفط والغاز وعدم قدرتها على ضمان السيطرة على ممراته ومصادره، إلا أنها يمكن من خلال ما توفره لها روسيا وقازاخستان وإيران تلبية جزء كبير وأساسي من احتياجاتها في المستقبل طالما أن التحالف المشترك مع هذه الدول ما زال مستمراً لمصلحة الجميع. وفي هذا العالم الذي تحول إلى الصراع على النفط لا تجد الهند لها مكاناً تحت الشمس. فهي قوة صناعية صاعدة وبحاجة للمزيد من النفط في وقت تتصارع فيه قوى أكبر منها للسيطرة على مصادره واحتكاره لمصلحتها. ولذلك ربما ستجد الهند في الصين والتعاون معها في أكثر من مجال دولة يمكن أن توفر لها علاقاتها وقوتها الصاعدة ما يمنح الهند جزءاً من هذا النفط والغاز. فقد عقدت الصين وإيران اتفاقية يتم بموجبها تزويد إيران للصين بغاز خلال (20) عاماً وتمنح فيها الصين امتيازات بالتنقيب عن النفط واستخراجه في إيران، وبلغت قيمة هذه الصفقة ما يزيد على (100) مليار دولار تدفعها الصين عبر هذه الفترة. وتشكل السودان أيضاً مصدراً لاستيراد النفط الصيني والتنقيب عليه في أراضي السودان، أما روسيا فستشكل الاحتياطي النفطي للصين طالما يستمر التحالف بينهما. فروسيا لا تستطيع تحويل نفسها إلى قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة من دون الاعتماد على الصين وما تشكله من قوة متجددة في عالم بدأ يتحدث عن أن الصين ستتفوق في السنوات العشرين المقبلة على الولاياتالمتحدة في المجال الاقتصادي. وفي لوحة عالم يتنافس ويتصارع على الطاقة وبأنياب نووية، يبدو أن الهند مدعوة للانضمام إلى أحد أنديته في النهاية لأن الهند وحدها لن تستطيع الاستمرار ولا حل المشاكل الكثيرة والمزمنة التي تعاني منها منذ فترة طويلة. فالنادي الأميركي الياباني يفتح بواباته أمامها مثلما يفتح النادي الصيني بوابته أيضاً ولكل نادٍ سلبياته وإيجابياته بالنسبة لمصالح الهند ومستقبلها في عالم لا يرحم، عالم قال عنه نهرو إنه تحول إلى الاهتمام المادي وليس الروحي والثقافي الحضاري. \r\n \r\n \r\n