ومزجت احتجاجها الظرفي هذا بالاحتجاج على شلل الدولة، وعلى سيطرة الكتل عليها، والاحتلال الاستعماري، الفرنسي، واجتياح المهاجرين الأوروبيين من الجزائر الجزيرة، الخ. وكان على رأس المجموعة الدكتور (الطبيب) سيميوني، زعيم منظمة العمل البلدي والمحلي الكورسيكي. وتبعته ثلة من الرجال قامت، بعد سنة، بإنشاء جبهة التحرير الوطنية الكورسيكية. وتتحمل الجبهة المسؤولية عن 8 آلاف عملية في أثناء الثلاثين سنة المنصرمة. وآذن ذلك بحمل فرنسا على امتحان حدود مثالها السياسي الجمهوري (الاندماجي) حملاً مفاجئاً وعنيفاً. وبدا التمرد المسلح، يومها، محاولة للتشبه بالانتفاضات القومية الاثنية التي هزت منذ أوائل 1960، الأمم (والشعوب) البريطانية والاسبانية. \r\n \r\n ففي الستر (الإيرلندية الشمالية) أدى قمع المظليين البريطانيين مسيرة جمهورية مسالمة، في 1972 (الأحد الدامي)، قمعاً دامياً، الى تجديد الجيش الإيرلندي الجنوبي وإحيائه. فخاض كفاحاً مسلحاً ضد التاج البريطاني والسلطات الشمالية الموالية. وقبل أربع سنوات، في 1968، بإسبانيا، نفذت الحركة الباسكية «إيتا» أول اغتيال لها في شرطي تُهم بتعذيب المسجونين الباسكيين. \r\n \r\n وعلى هذا، تشهد ثلاثة بلدان قريبة، فرنسا واسبانيا وبريطانيا، ثلاث مناطق أو ولايات متمردة، وثلاث حركات مسلحة، تقيم البرهان على هشاشة الأجسام الوطنية وتركيبها بأوروبا. وفي الأحوال الثلاث تُنكر سلطة الدولة المركزية باسم استقلال ذاتي سياسي وإرادة إحياء ثقافي، وسعي في التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي. وأشبهت نبرة التمرد لهجة حركات العالم الثالث وانتفاضاته (...) ولكن الشبه الظاهر لا يتستر على الفرادة الحقيقية التي تذرعت بها الحركة الاستقلالية، ولا يغطي من شأنها. فالحركة هذه رفضت السياسة الزبائنية التي تبثها العشائرية في كورسيكا. وقاومت ديكتاتورية الجنرال فرانكو المزمنة والمصمة سمعها صمماًً تاماً عن المطالب المحلية وسعيها في الاعتراف بخصوصيتها، وناهضت التمييز الاقتصادي والتمثيلي في حق الجماعة الكاثوليكية الإيرلندية الخاضعة لقلة بروتستانتية موالية ومستقوية بالمساندة الانكليزية (...) \r\n \r\n وفي أعقاب ثلاثين عاماً، لا مناص من الإقرار بأن «النزعة البلدية والمحلية المعسكرة» بلغت نهاية مطافها. ولعل إعلان الجيش الإيرلندي الجمهوري تخليه عن سلاحه – وكان الاعلان هذا أرجئ المرة بعد المرة منذ اتفاق ستورمونت السياسي (بين الحكومة البريطانية وبين المنظمة – الواجهة الإيرلندية «سين فاين» بعد وساطة أميركية تعهدها الرئيس السابق كلينتون) في 10 نيسان (أبريل) 1998 – أقوى قرينة على الأمر. وتوحي إشاعات كثيرة، بإسبانيا، بمفاوضات بين «إيتا»، الساكنة تقريباً منذ نيف وعام، وبين الحكومة الاشتراكية الجديدة. وجعل تفسخ المنظمات القومية الكورسيكية الذي بلغ ذروته مع اعتقال الزعيم المفترض للحركة المسلحة الأولى في الجزيرة وتهمته بالاحتيال والارتشاء الماليين، قبل اشهر قليلة، جعل خطاب قادة الحركة التوحيدي والفاضل عصياً على السمع والفهم. \r\n \r\n فالمناضلون يشيخون ويدور العنف في فراغ. \r\n \r\n وتتضافر علل كثيرة على النزع البطيء والثابث هذا، فعمليات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ومدريد بعدها بسنتين، وانفجارات لندن الأخيرة، نزعت المشروعية عن التوسل بالعنف الموصوف بالارهاب في وقت اقتصر التوسل به – في الغرب – على المجموعات «الجهادية» (...). ولكن أطوار العنف الارهابي الأخيرة ليست وحدها السبب في تجريد الغضب القومي من سحره ودالته. فالوهن والخيبة ترجح كفتهما كفة جدوى العنف. وأجيال المناضلين لم تحصل، من طريق السلاح، على استقلال ذاتي عريض حصلت عليه مناطق مسالمة، وانتهجت نهجاً سياسياً لم يخالطه التمرد والعنف (...). وأصاب الوهن المساندة الدولية، التي اضطلعت بها الجالية الإيرلندية الأميركية القومية حين غمض العنف، واختلطت معانيه، واقتضت الحال رعاية الحليف البريطاني والتقرب منه. ومنذ بداية التسعينات خرجت السياسة الفرنسية عن جمودها بإزاء مسألة بلاد الباسك. فاضعف الموقف الفرنسي المنظمة القومية، واضطرها الى الحرب على جبهتين (...). \r\n \r\n وحلت بأوروبا محل قومية الاحتجاج والتمرد قومية الاضطلاع بالادارة والتدبير. وهذه القومية المسؤولة تحوز رعاية الاتحاد الأوروبي واعترافه. ويمنحها الاتحاد أدوات تنظيمية وإدارية وهيئات تخدمها (مثل لجنة المناطق منذ 1994 والموارد البنيوية). وفي الاثناء، أصابت الخيبة المناضلين جراء عمى الارهاب («إيتا» منذ 1986)، وتسلل داء العصابات الى جسم المنظمات، وتنصيب المنظمات نفسها وصياً على انحرافات المجتمع المدني المفترضة. \r\n \r\n فهل يؤذن هذا بنهاية العنف القومي الاثني بأوروبا؟ قد يكون ذلك مرجحاً على مدى بعيد، ولكن التآكل المتوقع بطيء الخطو. فلا يؤمن، بألستر، خطر الانشقاق عن الجيش الإيرلندي، ولا إقدام منظمات بروتستانتية شبه عسكرية على شل العملية السياسية. وتضطر معارضة الحزب الشعبي الاسباني الحكومة الاشتراكية الى المفاوضة في الخفاء، جراء تحفظ الرأي العام الملدوغ من قبل عن إعلانات «إيتا» وانقلاب مبادراتها بين عشية وضحاها. ولا يزال العنف بكورسيكا ميزة المعسكر القومي، والسمة التي يخالف بها الجماعات السياسية المحلية، المتشاركة كلها في «كورسيكية» معقولة. ويضطلع العفو بدور راجح في لأم الصدع بين الجماعات الممزقة – والحذرة (لا سيما بالسترو بلاد الباسك). ويستتبع التخلي عن العنف النزول عن جوائز وعوائد مالية (الخوة) ورمزية معنوية (الإعلاء من شأن النفس) يسوغها حمل السلاح. وينبغي على العملية السلمية اعتبار أحوال المناضلين المتواضعين، فلا تقتصر المفاوضة على دائرة السياسة والسياسيين العليا. وقد يؤدي إلغاء العسكرة، وانهيار المنظمات العسكرية، إلى اصطباغ العنف بصبغة اجتماعية وجرمية، وإرخاء الزمام لشهوات المافيا على أنواعها، وتحالفها مع متقاعدي الحركة القومية (...). \r\n \r\n * (أستاذ علوم سياسية)،