المناصب في البنك الدولي حكر على الأميركيين \r\n \r\n ويحيط بعملية الاختيار المعدة الآن نوع من السرية رغم أن جميع المرشحين لتولي هذه المناصب هم من المواطنين الأميركيين فقط. ومن المعتاد أن تشير الانتقادات الموجهة لعمل البنك الدولي إلى الفجوات القائمة بين ما يقدمه من خطابات معسولة مطمئنة وبين الواقع الذي يناقض وجود أي معنى عملي لهذه الخطابات. لكن وجود ثلاثة من المسؤولين من داخل البيت الأبيض وإعطاءهم مهمة وضع قائمة المرشحين والمنتخبين في تلك المناصب الخاصة بالبنك الدولي يؤكد بشكل خاص وواضح بأن سيطرة الحكومة الأميركية وتحكّمها بالوضع داخل البنك الدولي يبلغان حجماً كبيراً داخل هذه المؤسسة الدولية. فبموجب اتفاقية ودية جرى التوصل إليها في الأربعينات تعين أن يكون رئيس البنك الدولي أميركياً ونائب رئيس «منظمة صندوق النقد الدولي» أميركياً بشكل دائم وأن يكون رئيس (صندوق النقد الدولي) أوروبياً. ولم يقم أحد حتى الآن بإعادة النظر في هذه القسمة بين أميركا وأوروبا ولم يظهر أي حافز للطرفين بالمبادرة إلى تغيير هذه الطريقة. وفي الأسابيع الماضية ظهر تفضيل مبكر لاختيار مرشحين مثل كولين باول وزير الخارجية الأميركي السابق، وروبرت زويليك أحد المتشددين في مجموعة المحافظين الجدد، بل وتحدثت أنباء عن ترشيح بيل كلينتون الرئيس الأميركي السابق. لكن بوش ورجال إدارته الجدد استبعدوا كولين باول واعتبروا أنه لا ينبغي مكافأته عن طريق استلام منصب رئيس البنك الدولي. أما زويليك فقد عين نائباً لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وكان رجال إدارة بوش يبدون التردد تجاه كلينتون. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n عصفوران بحجر واحد \r\n \r\n ومع ذلك، يقول بعض المعلقين الأميركيين أن بوش قد يضرب عصفورين بحجر واحد إذا ما رشح كلينتون لرئاسة البنك الدولي. فالهدف الأول الذي يتحقق من هذا التعيين هو الحصول على أنصار من الحزب الديموقراطي عن طريق هذه الرشوة، والهدف الثاني هو تقييد أو تعويق هيلاري كلينتون زوجة الرئيس السابق عن ترشيح نفسها للرئاسة أمام مرشح جمهوري عام 2008. ورغم كل هذه التعليقات يبدو أن سياسة اختيار الرجل المناسب في الحكم غائبة هنا، فلا توجد أي عملية واضحة تحدد الأهمية العالمية لهذا المنصب عند اختيار رئيس له. وفي هذا الوقت بالذات لم تعد معرفة طريقة اختيار رئيس البنك الدولي تقتصر إلا على إدارة بوش ورغباتها. فقد طلبت هيئة إدارة البنك الدولي الرسمية وهي مؤلفة من مجموعة من رؤساء الإدارات والأقسام أن تتوفر لها فرصة المشاركة التشاورية في اختيار مرشح لرئاسة البنك الدولي، لكن إدارة بوش صدت هذا الطلب بسرعة قصوى وقدمت على الفور المرشح البديل الأميركي لهيئة إدارة البنك وهو بوب هولاند الذي كان من بين أوائل رجال الأعمال الأميركيين في حملة دعم ترشيح بوش للرئاسة وهو من وفر لبوش (100) ألف دولار أثناء بداية حملته في العام 2000. وهذا التعيين يناقض تماماً الأهداف التي أقيم من أجلها البنك الدولي والطريقة التي يتعين اختيار الرئيس المناسب له. فقد جاء في نصوص وثائق البنك الدولي أن عملية ترشيح واختيار رئيس للبنك ينبغي أن تجري بطريقة وأسلوب يحافظان على مهمة البنك في تخفيض الفقر من خلال العمل على تحقيق نمو دائم والتشجيع والتعزيز على تحقيق تطور ونمو دولي مسؤول. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n افكار بلا وزن \r\n \r\n لكن واقع الأمر يشير إلى حقيقة أن جيمس وولفينسون رئيس البنك الدولي المستقيل ليس له أي دور أو نفوذ مساعد في هذه العملية. فقد أعلن أمام أعضاء مجلس إدارة البنك الدولي في اجتماع عقد في كانون الثاني/ يناير الماضي أنه عرض مع جون سنو وزير المالية الأميركي جميع أفكاره وقدم له كل الآراء المناسبة حول عملية ترشيح الرجل المناسب في هذا المنصب، لكنه مع ذلك غير متأكد وواثق من أن تحمل آراؤه أي وزن يذكر. وذكر وولفينسون أمام زملائه في البنك أنه وضع تفاصيل مهمة أمام وزير المالية الأميركي تتعلق بعملية اختيار أفضل مرشح ينفذ مهام هذا البنك، وطلب منهم الاطلاع على هذه الآراء من موقع الإنترنت الذي يحمل اسم «رئيس البنك الدولي. دوت. أورغ». لكن الطريف في هذا الأمر هو أنني أنا الذي أنشأت هذا الموقع باسم «رئيس البنك الدولي» أثناء عملي في هيئة البنك الدولي، وساعدني في هذه المهمة صديق مختص ونحن معاً نعمل من بلجيكا ومن بريطانيا وليس من واشنطن. وتحدثت صحيفة واشنطن بوست، ووكالة الأنباء (رويترز) وهيئة إدارة البنك الدولي بإيجابية عن كل ما تضمنه موقع رئيس البنك الدولي في الإنترنت تجاه الموضوع المتعلق بعملية اختيار رئيس البنك. ويذكر أن عملية اختيار الرئيس ليست مفتوحة بل محصورة ولا وجود لدول أخرى تقف في وجه واشنطن عند الاختيار. وحتى الآن لم يحدث أن عرضت دولة أخرى أي مرشح لها أو لغيرها لتولي هذا المنصب. وذكر لي أحد الديبلوماسيين الأجانب وهو مختص بشؤون الدول النامية داخل هيئة البنك الدولي في واشنطن أن الدول الفقيرة لا يجرؤ أي مسؤول فيها على تحدي هذه العملية في اختيار رئيس البنك. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n الدول الصغيرة تخاف الحرمان \r\n \r\n ويؤكد لي هذا الديبلوماسي أن محاولة تدخل دولة فقيرة في هذه العملية وبشكل يناقض الرغبة الأميركية ستفجر معركة ديبلوماسية للإدارة الأميركية وخلق مشكلة في تحديد هوية رئيس البنك وهذا من شأنه لجوء واشنطن إلى حرمان تلك الدولة الفقيرة من القروض التي قد تستلزمها في المستقبل. وربما يعتقد المرء أن دولاً أوروبية يمكن لها أن تقول رأيها في هذه العملية. والحقيقة هي أن زيارة بوش إلى الدول الأوروبية والاجتماع بقادتها بدأت تحول دون تقديم أي موقف أوروبي تجاه عملية اختيار رئيس البنك الدولي خصوصاً وأن بوش أعلن أنه راغب بإصلاح العلاقات الأميركية الأوروبية. فطوني بلير نفسه وهو الحليف المقرب لواشنطن في أوروبا لم يجرؤ كثيراً على المساس بدعم كوفي أنان سكرتير عام الأممالمتحدة. ويبدو واضحاً أن الحكومة البريطانية ليست على استعداد لاستخدام نفوذها مع واشنطن من أجل اختيار أميركي مناسب لمنصب رئيس البنك الدولي وسوف تقبل بأي رئيس يختاره بوش سواء كان دافع الاختيار شخصياً أو غير شخصي. وهناك من يرى أن الأوروبيين ربما أصبحوا محرجين لأنهم لم يبدأوا بعملية اختيار رئيس لصندوق النقد الدولي من بين الدول الأوروبية في العام الماضي. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n مرشح بوش الأوفر خطاً \r\n \r\n فعلى الرغم من التمرد الذي قام به ما يزيد على نصف مدراء الهيئات التنفيذية التابعة لصندوق النقد الدولي ومجلس إدارته، واصلت الدول الأوروبية تجميد عملية اختيار خليفة لرئيس هذه المنظمة الدولية لفترة سنة تقريباً إلى أن أجبرت في النهاية على ترشيح رودريغو دوراتو وزير المالية الإسباني السابق. وتشير التقديرات الأخيرة التي تظهر في الولاياتالمتحدة إلى أن إدارة بوش ربما ترشح أيضاً بيتر ماكفيرسون أو نانسي كاسيباوم بيكر أو إلين تشاو لمنصب رئيس البنك الدولي إضافة لمرشح بوش هولاند. والمعروف أن ماكفيرسون تولى منذ وقت قريب جداً منصب المنسق المالي لبرنامج إعادة بناء العراق، وكان قد عمل مع ديك تشيني في البيت الأبيض حين كان بوش رئيساً للولايات المتحدة. كما تولى ماكفيرسون منصب رئيس «شركة الاستثمارات الخاصة لما وراء البحار»، وهي وكالة قروض التصدير الأميركية ثم تولى في ما بعد إدارة وكالة «المساعدات الأميركية» الشهيرة باسم (يو أس ايد) (U S AID) في عهد الرئيس رونالد ريغان وتولى منذ عام 1987 إلى عام 1989 منصب نائب وزير المالية الأميركي. أما نانسي كاسيباوم - بيكر فهي عضو كونغرس سابق وتعمل حالياً في «مفوضية أفريقيا» التابعة للحكومة البريطانية، وإيلين تشاو كانت تتولى في السابق وزارة العمل الأميركية ثم أصبحت رئيسة لقوات السلام في السابق أيضاً. وهناك من يرى أن تشاو المتزوجة من عضو الكونغرس المتنفذ الجمهوري ميتش ماكونيل ستتوفر لها من خلال زوجها إمكانية النجاح في جمع الأموال من الكونغرس بشكل أسهل من أي رئيس سابق للبنك الدولي لأن زوجها يملك نفوذاً قوياً داخل الكونغرس وبين الجمهوريين. ومع ذلك لا ينبغي أن تشكل الروابط والصلات السياسية المحك والمعيار الرئيس والأساسي في عملية اختيار رئيس لأهم منصب في البنك الدولي يصبح تحت تصرفه 20 ملياراً من الدولارات سنوياً ويتمتع بصلاحية إنفاقه على متطلبات النمو العالمي بموجب الأهداف المعلنة للبنك الدولي. وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها مجموعات المجتمع المدني على البنك الدولي لتغيير سياسته وإجراء إصلاحات مهمة في طريقة عمله إلا أن عملية اتخاذ القرار داخل مجلس إدارة البنك عادة ما تجري بالخفاء ومن وراء الكواليس. وفي وقتنا هذا أصبحت الإصلاحات التي جرى تبنيها في السنوات العشر الماضية في البنك الدولي عرضة الآن لخطر الزوال من رئيس جديد مقبل. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n اخفاقات البنك الدولي والمستقبل المجهول \r\n \r\n ولا شك أن الإدعاء بأن البنك الدولي هو مؤسسة تشارك فيها أطراف دولية متعددة لا يتطابق أبداً مع طريقة اختيار رئيس لها. وفي كتابه «لماذا تنجح العولمة الأميركية» يقول الكاتب مارتين وولف من صحيفة (فايننشال تايمز) إن الإخفاقات الكبيرة في مهام البنك الدولي تضع هذه المنظمة الدولية أمام مستقبل مجهول. وجاء في كتابه المذكور: «إن أكبر مصدر مهم للإخفاقات التي تحدث في سياسات البنك الدولي تجاه الدول الأخرى هو منحه القروض لدول محددة لا يأخذ بالاعتبار طبيعة أوضاعها الداخلية. وهذا الخلل في طريقة عمل البنك الدولي يعود إلى بداية تأسيسه حين تولى رئاسته روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي في أحرج الحروب الأميركية. فقد تولى ماكنمارا رئاسة البنك وتحديد سياسته منذ عام 1967 حتى عام 1981 وكان لا يحمل أفكاراً خلاقة بل أراد تخفيف آلام الفقر وإعطاء حبوب مهدئة وليس علاجاً وهو من كان يضع الخطط ويحدد المقاييس والمقادير. وحين اعتمد ماكنمارا على مستشاره الاقتصادي هوليس تشينيري بدأ ينفذ سياسة متشددة ستالينية في التنمية والتطوير لا تصب في النهاية إلا في مصلحة الولاياتالمتحدة. وقامت الطريقة التي اعتمدها على أن تحقيق أي دولة للنمو السريع لا بد أن يتبعه زيادة في الاستثمارات فيها وزيادة في مقادير العملات الأجنبية أيضاً. لكن تحقيق هذين العاملين يتطلبان عادة مصادر إضافية تأتي من الخارج وهذا الخارج هو البنك الدولي الذي سيقرض هذه الدولة بشكل شبه مستمر. وفي ظل هذه الإدارة بدأت تزداد عملية إعطاء القروض من البنك الدولي وتزداد قوته خصوصاً وأنه كان يقدم القروض بغض النظر عن نوعية المشاريع التي قدمت من أجلها وهي غالباً ما تكون مشاريع بعيدة عن برامج النمو الحقيقية لتلك الدول. عشرون سنة من القروض لم تقدم جديداً للهند ولاحظت أثناء عملي في البنك الدولي في السبعينات أن كل دولة فقيرة كانت تضع خطة خمسية محددة وتطلب قرضاً يساعد على تحقيقها، وكانت الدولة المتطورة نسبياً مثل الهند تضع خطتها الخمسية بموجب مستوى تطورها وكانت الدول ذات المستوى الأدنى في التطور النسبي تضع خططها بنفس درجة تدني تطورها، وفي النهاية لا نجدها تحقق شيئاً من تلك القروض. لكن هذه المسائل كانت تؤدي إلى إلحاق الضرر باقتصاد الدول الفقيرة فالتجارب المستمدة من التخطيط الاقتصادي القومي أفرزت دروساً وعبراً كثيرة لأنها توفر لنا إدراك ما ينفع لهذا البلد وما لا ينفع في مرحلة معينة من أجل النهوض بمستوى معيشة شعبه. فقد عملت في الهند بمنصب اقتصادي رفيع المستوى لمدة ثلاث سنوات باسم البنك الدولي وكانت مهمتي هي إعطاء المبررات التي تستوجب تقسيم الكميات التي يخصصها البنك لمساعدة الهند حتى لو كانت هذه المبالغ ستستخدمها حكومة الهند بطريقة تحول دون إجراء أي تغيير في سياستها الاقتصادية وهو ما كان ملحاً في ذلك الوقت. واستمرت القروض طوال تلك الفترة من دون أن تجري الهند التغير المطلوب في سياستها الاقتصادية إلا في عام 1991 أي أن عشرين سنة من القروض لم تقدم أي جديد للهند. وكانت الشخصية المركزية الهندية التي تولت تدشين تلك التغييرات هي مانموهان سينغ الذي تولى منصب وزير المالية في ذلك العام وها هو يتولى رئاسة الحكومة الهندية في هذا الوقت. وهذه التجربة تدل على ثلاثة دروس مهمة هي: 1 - إن إجراء تغييرات سياسية يمكن أن يولد اختلافاً كبيراً في الأداء الاقتصادي لدولة ما. 2 - إن هذه التغييرات يمكن أن تقوم بها فرق عمل صغيرة من الأفراد النشطاء الأذكياء المنظمين جيداً لمصلحة بلادهم. 3 - إن هذه التغييرات لا يمكن فرضها من الخارج وهو أهم درس يمكن استخلاصه من تلك التجربة. قروض سياسية لنشر الرشوة والفساد ومن المؤسف أن منح القروض الكثيرة لم يكن هو الخطأ الوحيد الذي يرتكبه البنك الدولي لأن الخطأ الآخر المهم الذي اعتاد على ارتكابه هو منحه القروض للحكومات لأسباب سياسية. فإذا كان من المفترض أن تمثل الحكومة عادة مصالح شعبها، إلا أن تلك القروض لم تتجه نحو ذلك الهدف لأن قروض البنك الدولي لهذه الحكومة أم تلك كانت تنشر الرشوة والفساد الداخلي وكانت تؤدي إلى تجاهل الحكومات لمصالح وطموحات شعوبها. وفي نهاية فترة عملي في البنك الدولي توصلت إلى الاستنتاج بأن المستقرضين من البنك الدولي هم من الأنواع الثلاثة التالية: 1 - النوع الذي لا يحتاج للمساعد. 2 - النوع الذي لن يستخدم هذه المساعدة للمصلحة العامة. 3 - النوع الذي يحتاج لمساعدة البنك الدولي ويرغب باستخدامها للمصلحة العامة. لكن البنك الدولي لم يكن في مقدوره من ناحية دستوره ونظام عمله التركيز على مساعدة النوع الثالث رغم أن عدد دول هذه النوع لم يكن كبيراً. ولا شك أن الاعتماد على الحكومات في العقدين الماضيين وخصوصاً بين الدول النامية في مهمة محاربة الفقر ووضع الخطط المناسبة للحد منه وتوفير مستوى دخل مقبول نسبياً وتحقيق تقدم في الاقتصاد الوطني لم يكن سوى مضيعة للوقت وللقروض. ولم يعترف البنك الدولي بخطئه هذا إلا في التسعينات بعد أن تبين أن سياسته شكلت أحد عوامل إعاقة النمو الاقتصادي الوطني لدول العالم الثالث. ولم يتوصل البنك الدولي إلى الاعتراف بهذا الخطأ إلا في عهد جيمس وولفينسون حين تولى رئاسته. وإذا كان هناك من يدرك الآن بأن إعطاء مهمة الإشراف على إبعاد الاقتصاد العالمي ومراقبتها للبنك الدولي هو أمر ضروري وهو ما أثبت فشله فإن اندماج اقتصاد دول العالم بشكل عام هو العنصر المهم الآن بعد وجودي في البنك الدولي في تلك السنوات وبموجب ما يشير إليه الوضع الاقتصادي العالمي في يومنا هذا». \r\n \r\n \r\n \r\n