بالنسبة لنائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، لا يمثل العراق شيئاً يستحق أن يُعتذر عن الأخطاء التي ارتكبت بحقه. ويبدو من خلال عبارات اللوم والانتقاد التي وجهها لأوباما خلال الحوارات التلفزيونية التي شارك فيها مؤخراً بسبب خسارته للعراق، وكأنه يعاني داء فقد الذاكرة. إلا أن فضيلة النسيان لا يمكنها أن تطمس دوره المركزي في جلب الفوضى والدمار إلى العراق. ولا يزال يرفض رفضاً باتاً الاعتراف بارتكابه أي خطأ هناك على الإطلاق. ولم تقتصر نتائج هذا التجاهل المستهجن للحقائق على تشويه أحداث الماضي فحسب، بل إنه ساعد على خلق الملاذ الآمن للإرهاب على النحو الذي لم يعهده العراق قبل الغزو الأميركي. كما أن ادعاءاته الملفقة يمكنها أن تقضي على أي فرصة منتظرة لطرد الإرهابيين. دعنا نراجع الآن الأساليب التي فاقم بموجبها نائب الرئيس السابق مشاكل العراق وزادها سوءاً وتعقيداً. ولسنا الآن بصدد إعادة اجترار الحجج الاستخباراتية الملفقة والمثيرة للجدل التي استغلها أسوأ استغلال ل«شرعنة» الغزو. لكن، لننظر إلى اللامبالاة التي يتعامل بها مع البلد الذي خرّبه. فقد ابتلع تصريحات صديقه العراقي المفضل أحمد الجلبي من أن الشيعة العراقيين سوف يحققون أهدافنا في تحطيم الجيش القديم وإلحاق الهزيمة بأهل السنّة. ويعتقد تشيني أيضاً بأن العراق كان ناضجاً ومستعداً لتبني الديمقراطية (على أساس أن يكون الجلبي زعيمها!)، وبأن إيران ستكون حجر الدومينو الذي سيسقط لاحقاً. ولقد جانبه الصواب عندما تبنّى كل هذه الأساليب والأطروحات الباطلة، خاصة عندما رفض الاستماع إلى أولئك الذين يعرفون كيف يقفوا على الحقائق أكثر منه. ومن ذلك مثلاً، أن الجلبي لا يمتلك قاعدة شعبية في العراق بعد أن قضى 30 عاماً في الخارج. ويضاف إلى ذلك أن الغالبية العظمى من فقراء الطائفة الشيعية كانوا فاقدي الثقة بالأميركيين لأنهم لا ينسون أبداً أن جورج بوش (الأب) حرّضهم على الثورة عام 1991 ثم ترك صدام حسين يتصدى لهم بحزم. ومن هؤلاء الشيعة الساخطين الناقمين انبثقت حركة «جيش المهدي» المتطرفة وبقية الفصائل الشيعية التي تأتمر الآن بأوامر إيران. وهناك ما هو أكثر من هذا وذاك، وخلافاً للأحلام التي كانت تعشش في رأس تشيني، فلقد أدى عزل صدام وصعود الأغلبية الشيعية العراقية كقوة وحيدة على الأرض، إلى زيادة تأثير إيران على القرار السياسي لبغداد بشكل لم يسبق له مثيل. وخلال الأيام القليلة الماضية، أصبح أقوى رجل في العراق على الإطلاق هو الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني. وفي زمن تشيني، كان أتباع الطائفة السنّية مهمّشين. وهذا ما دفع بعض أبناء العشائر السنية للارتباط ببعض التنظيمات المرتبطة بتنظيم «القاعدة». وهي الظاهرة التي أصبحنا نراها الآن بشكل أوضح وأكثر انطواء على النتائج المأساوية. ولم يكن بالإمكان إعادة بناء الجيش العراقي المنحل على الإطلاق على أساس أن يمثل قوة وطنية بعد أن انفرط عقده بفضل تعاليم تشيني. ويمكنك أن ترى كيف انهار وتقوّضت أركانه خلال أحداث الشهر المنصرم وحدها. وما من واحدة من هذه المغالطات يمكنها أن تعفي أوباما من اشتراكه في المسؤولية عن وقوع هذه الأزمة المدمرة التي يعاني ويلاتها الآن كل من العراقوسوريا. وإذا كان تشيني قد سجّل كل هذا الفشل والإخفاق، فإن أوباما لم يبذل إلا الجهد القليل لإصلاح أخطائه. ولم يعمد لوضع أي استراتيجية للتصدي لظاهرة تزايد الفصائل الإرهابية الجهادية المرتبطة بتنظيم «القاعدة» في سوريا أو العراق. ولقد سخّر كل اهتمامه لدعم رئيس الوزراء الطائفي نوري المالكي في بغداد، ما أدى إلى تشجيع السنّة المتخوفين من بطش الشيعة على التحالف مرة أخرى مع الجهاديين. ولقد تقاعس البيت الأبيض في عهد إدارة أوباما عن الإبقاء على قوة أميركية صغيرة قادرة على التعامل مع التطورات المستجدة بعد سحب قواته من هناك عام 2011. وكان في وسع تلك القوة أن تضمن الإبقاء على نفوذ المسؤولين الأميركيين حتى يتمكنوا من التوسّط بين المرجعيات المذهبية مثلما كانوا يفعلون بنجاح في الماضي. وكان من شأن مثل هذا العمل أن يمنع حدوث الأزمة التي يعاني منها العراق اليوم. ورغم كل هذا الذي حدث، فإنه من الخطأ القول بأن الأمور في العراق كانت على ما يرام عندما غادر تشيني البيت الأبيض. ولقد تمكن السفير الأميركي في بغداد، ريان كروكر، بمعونة الجنرال دافيد بيترايوس من إنقاذ تشيني (ورئيسه) من الكارثة التي صنعاها بنفسيهما، وحاول أوباما بكل ما يمتلك من جهد تدعيم هذه المكاسب. لكن الحقيقة الراسخة هي أن مؤسسات الدولة العراقية انهارت عن بكرة أبيها بسبب الغزو الأميركي. كما أن ما أُعيد ترميمه منها يوشك بدوره على الانهيار والاندثار. وأدت تلك الأخطاء التي ارتكبها تشيني إلى معارضة الأميركيين لأي تدخل جديد في هذا البلد المضطرب. ولا يزال الأميركيون يتذكرون تلك الأموال الطائلة التي أنفقت على «المشاريع الوهمية» التي لا يحتاجها العراقيون أبداً. ولن ينسوا جنودهم الذين ماتوا لأن البنتاجون فشل في تزويدهم بالدروع الواقية من الرصاص. والآن أصبحت أميركا في حالة خوف من التدخل في العراق. ولقد أشارت استطلاعات حديثة للرأي، وكذلك بريدي الإلكتروني، إلى هذه الحقيقة التي لم يعد يختلف بشأنها اثنان. نوع المقال: العراق الولاياتالمتحدة الامريكية