قدم الرئيس أوباما خلال زيارته إلى بولندا الشهر الجاري مليار دولار كمساعدة عسكرية لحلفاء أميركا من أعضاء حلف شمالي الأطلسي الذين عبروا عن قلقهم من السلوك العدواني للكرملين. وهذه المساعدة التي أطلق عليها اسم «مبادرة إعادة تأمين أوروبا» ستزيد ميزانية الحلف بنحو 0,1 في المئة فقط، إلا أن الأوروبيين شعروا بالفرح لكون هذه المساعدة الهامشية تأتي رداً على الحقائق الجديدة غير المحبذة القائمة على الأرض. وخلال عدة عقود مضت، سجل حلفاؤنا في «الناتو» تقصيراً كبيراً في مجال الاستثمار المالي لتأسيس قواتهم الأمنية الخاصة، ولم يستشعروا ضرورة ذلك إلا عندما فوجئوا بالرئيس بوتين وهو يدفع بنحو 40 ألف جندي إلى الحدود المشتركة مع أوكرانيا، من دون أن تتوفر لهم القوة اللازمة لتوجيه موقف حازم في الردّ على هذا السلوك. وتذكرنا أزمة أوكرانيا بأخطار جسيمة سابقة كان من السهل جداً نسيانها. وقد فوّت أوباما على نفسه فرصة اقتباس بعض السطور المهمة من خطاب تنصيب الرئيس الراحل جون كنيدي عام 1961. وكان عليه أن ينبّه زعماء بريطانياوفرنساوألمانيا وحتى بولندا إلى ألا يسألوا الأميركيين عما يمكنهم تقديمه لحماية الأمن الأوروبي، بل أن يتساءلوا هم عما يمكنهم أن يقدموه لأنفسهم في هذا المجال. وبالطبع، فهذا الطرح لا يندرج في إطار الفلسفة التجريدية الغامضة. فبعد عقدين من نهاية الحرب الباردة، أدى المنهج المزدوج في التفكير الذي يقضي بالمبالغة في الاعتماد على القوة العسكرية الأميركية من جهة، وتخفيض الاستثمار المالي في البحوث والصناعات العسكرية من جهة ثانية، إلى دفع منظومة الأمن الأوروبي إلى حافة الخطر. واليوم، على رغم أن عدد سكان دول الاتحاد الأوروبي يعادل ثلاثة أمثال عدد سكان روسيا، وتزيد قوتهم الاقتصادية عن ثمانية أمثال قوة الاقتصاد الروسي، فإن تلك الدول لا تنفق إلا أقل من 60 في المئة فقط مما تنفقه روسيا على منظومتها الدفاعية. ويمكن لهذا الاستثمار الهزيل أن يساعد في تفسير ضعف الخطاب الأوروبي المتعلق بالرد على تجاوزات بوتين. وبالنسبة لواشنطن، لا يمكن الإبقاء على هذا النوع من العلاقات. وبالنسبة لأوروبا يفترض أن يكون مرفوضاً أصلاً. وخلال الشهر الجاري، كان الاحتفال بإنزال النورماندي مناسبة مهمة للتذكير بالتضحيات الجسام التي قدمها الأميركيون للدفاع عن أمن أوروبا. ففي 6 يونيو من عام 1944، نزل نحو 73 ألف جندي أميركي على شواطئ نورماندي (شمال فرنسا) للدخول في حرب بريّة واسعة النطاق لتحرير قارة أوروبا من الجيش النازي المحتل. وقبل أن تستسلم ألمانيا النازية بعد 11 شهراً من بداية الإنزال، بلغ عدد الجنود الأميركيين في أوروبا 180 ألفاً. ولو لم يسرع الأميركيون لنجدة الأوروبيين في تلك الحرب الضروس، لكانوا يعيشون حتى الآن في ظلّ واحد من أكثر الأنظمة وحشية عبر التاريخ. وقد حوّلت الحرب العالمية الثانية أوروبا إلى حُطام، وقد خفت أميركا أيضاً لمساعدتها على إعادة الإعمار. وهو المشهد الذي وصفه «كليمنت آتلي» الذي تقلد منصب رئيس الوزراء البريطاني بين عامي 1945 و1951 خلفاً لوينستون تشرشل، بأنه «عمل يتّصف بكرم وحس بالمسؤولية لا نظير له». وقد ساهمت الولاياتالمتحدة بأكثر من 5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي (في ذلك الوقت) أو ما يعادل 840 مليار دولار لإعادة إعمار أوروبا. وفيما بعد، عندما احتلت الجيوش السوفييتية دول شرق أوروبا بالإضافة للقطاع الشرقي من العاصمة الألمانية برلين وراحت تهدد دول أوروبا الغربية، تصدّى لها الأميركيون بكل قوة أيضاً. وقد أصبح حلف «الناتو» هو أضخم تحالف عسكري في كل الأوقات والعصور، وتم تدعيمه أكثر وأكثر بالمظلة النووية الأميركية من أجل وضع حدّ للتهديدات النووية السوفييتية. وقد حدث كل هذا على رغم أنه يعني بطريقة ما «وضع بوسطن تحت التهديد دفاعاً عن برلين». وعندما تم تحطيم حاجز برلين في عام 1989، سارعت الولاياتالمتحدة إلى تقديم المساعدة لألمانيا من أجل إصلاح الأوضاع في ألمانياالشرقية السابقة تمهيداً لضمها إلى الدولة الأم التي هي عضو في حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي. وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، سارع الأميركيون مرة أخرى إلى مساعدة روسيا الجديدة على نزع الأسلحة النووية التي بقيت في عهدة بعض الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي وضمنت إعادتها بأمان إلى روسيا. واقتنعت روسيا بعد ذلك بضرورة منح الاستقلال والسيادة الوطنية لدول أوروبا الشرقية والوسطى لتظهر بذلك مجموعة الدول المستقلة الجديدة المنبثقة عن تفكك الاتحاد السوفييتي. وقبل حلف «الناتو» بقيادة الولاياتالمتحدة طلبات انضمام 12 دولة من شرق ووسط أوروبا بما فيها بولندا ودول البلطيق، وتعهد بوضع تلك الدول تحت مظلته الحمائية. وحتى أيامنا هذه، لا يزال الأميركيون يضحون بحياتهم لضمان أمن مواطني الدول الأوروبية. ولا شك أن هذه المهمة الدفاعية ليست رخيصة الثمن. وذلك لأن الأميركيين ينفقون 2300 دولار عن كل مواطن كنفقات دفاعية بما في ذلك الدفاع عن أوروبا نفسها. ويضاف هذا الإنفاق الأميركي إلى الإنفاق الأوروبي العام على الدفاع البالغ 275 مليار دولار، وأيضاً إلى أكثر من 1,5 مليون من الجنود الأوروبيين النظاميين الذين يوجدون الآن قيد الخدمة الفعلية. وهذا يعادل ضعف عدد الجنود النظاميين الروس، وأكبر من الميزانية الدفاعية لروسيا بثلاث مرات. وإذا كانت الدواعي الأوروبية لطلب الاستعانة بالغطاء الأمني الأميركي لا تزال مفهومة حتى الآن، إلا أن ظاهرة تخوف الأميركيين من خوض الحروب الجديدة، وسعيهم الحماسي لتخفيض الميزانية العامة غير المستدامة عن طريق تقليص الإنفاق الفيدرالي العام بما فيه الإنفاق على الدفاع، يجعل تلبية هذا الطلب الأوروبي أمراً متزايد الصعوبة يوماً بعد يوم، وهذا ما ينبغي أن يعيه الأوروبيون. نوع المقال: سياسة دولية الولاياتالمتحدةالامريكية الاتحاد الاوربى-شمال اسيا