وبسبب رعونة وخطورة هذه المغامرة، فقد كان طبيعياً ومتوقعاً أن ترد روسيا وبعنف على ما رأت فيه توغلاً غربياً سافراً داخل حدودها الإقليمية التاريخية. والأكثر من ذلك أن طمأنة حلف \"الناتو\" لكل من أوكرانيا وجورجيا على الانضمام لعضويته في نهاية الأمر، كانت بمثابة ضوء أخضر لكلتيهما فيما يشبه التحريض على خوض حرب مع الجارة الكبرى روسيا لم تكن في نية أي منهما خوضها. والدليل الملموس على هذا هو ما أسفرت عنه الحرب الجورجية- الروسية الأخيرة. والحق أن حلف \"الناتو\" قد تمادى في اتخاذ هذه السياسة إزاء روسيا على زعم أن هذه الأخيرة قد نُزعت أنيابُها بواسطة القوة العسكرية الغربية، إلى حد جعلها عاجزة عن أي مقاومة أو رد على اعتداءاته عليها. غير أن موسكو فاجأت الغرب بنقيض ما زعم تماماً بانقضاضها الساحق المدمر على حليفته جورجيا. وبذلك افتضحت أكذوبة \"الناتو\" وانهارت ضماناته لجارات روسيا الديمقراطيات كما ينهار سقف هزيل من القش! غير أنه ما من أحد في الغرب يجرؤ على الاعتراف بهذه الحقيقة. وبالنتيجة فإن الملاحظ على سلوك حكومات جمهوريات البلطيق وبولندا، إلى جانب حلفائهم من \"المحافظين الجدد\" في واشنطن من دعاة \"القرن الأميركي الجديد\" وأنصار توسيع الهيمنة العالمية، من أمثال نائب الرئيس ديك تشيني وأصدقائه وحلفائه في الجيش الأميركي، وكذلك سلوك مسؤولي شركات الطاقة والخدمات الصناعية الحكومية، هو أنهم يتعاملون جميعاً وكأنهم لا يدركون طبيعة وأبعاد ما حدث في جورجيا. \r\n \r\n والحقيقة أن هؤلاء جميعاً، إضافة إلى الدول الأوروبية المطالبة بضم جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا فوراً إلى عضوية حلف \"الناتو\"، إنما يضاعفون حجم الخطر ويؤججون نيرانه جراء تأكيد عزمهم والتزامهم بخوض الحرب جنباً إلى جنب مع جورجيا في حال شن هذه الأخيرة هجوماً على إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللذين أعلنت موسكو مؤخراً عن استقلالهما، في مسعى من تبليسي لإعادة ضمهما إلى حدودها الإقليمية مرة أخرى، وفيما لو كان رد روسيا على هجوم كهذا بضراوة ردها العسكري السابق. \r\n \r\n وفي تقديري أن الدول المذكورة لا تنوي الدخول في حرب كهذه، أو أنها لا تدرك خطورة ما تفعله بتعجيلها بضم الجمهوريتين السوفييتيتين السابقتين إلى عضوية الحلف الأطلسي. وربما هناك في واشنطن من شرع يفكر الآن في أن من شأن ضربة استباقية خفيفة وخاطفة لروسيا بقصد تجريدها من ترسانتها النووية، أن تكون كفيلة بكسر أنياب موسكو قبل أن تستأسد وتستقوي على الغرب أكثر مما تفعل الآن. غير أنني أشك في أن يكون هناك الكثيرون في واشنطن أو في حلف \"الناتو\" من يبدي استعداداً جدياً لتوفير ضمانات نووية لجورجيا في حال إقدامها عسكرياً على خطوة إعادة ضم إقليميها المنفصلين إلى أراضيها، أو أن يكون هناك من يبدي استعداداً لتقديم ضمانات نووية مماثلة في حال إقدام روسيا على توسيع صدع أوكرانيا الداخلي وزعزعة أمن مناطقها الناطقة باللغة الروسية. \r\n \r\n بسبب رعونة المغامرة الجورجية، فقد كان طبيعياً ومتوقعاً أن ترد روسيا وبعنف على ما رأت فيه توغلاً غربياً سافراً داخل حدودها الإقليمية التاريخية. \r\n \r\n \r\n يجدر بالذكر أن حلف \"الناتو\" كان قد أنشئ بمبادرة كندية في عام 1949 باعتباره مبادرة أمنية تضم دول منطقة أميركا الشمالية والاتحاد العسكري الأوروبي الذي أنشئ في عام 1948 بمبادرة فرنسية لمواجهة عودة تنامي القوة الألمانية حينئذ. وكان الهدف من تشكيل \"الناتو\" هو كسر شوكة القوة الألمانية من جهة، وإبعاد روسيا عنه من الجهة الأخرى. \r\n \r\n ويشار أيضاً إلى أن الحرب الباردة كانت قد بدأت فعلياً بين المعسكرين السوفييتي والغربي في عام 1948 على إثر الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا. وبالنتيجة انضمت دول أوروبية أخرى إلى \"الناتو\"، بما فيها ألمانيا التي أعلنت انضمامها إليه في عام 1955 إثر إعادة إعمارها وتسليحها. وقد شهد الحلف انهيار حائط برلين أخيراً وما تبعه من هزة في أركان الاتحاد السوفييتي الذي انصاع مكرهاً لوحدة ألمانيا ووحدة القارة الأوروبية بأسرها. حدث ذلك في عام 1989 في ظل إدارة جورج بوش الأب، الذي استطاع إقناع نظيره السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، بأن في وحدة الشطرين الغربي والشرقي لألمانيا، جنباً إلى جنب مع استقلال أوروبا الشرقية، ما يخدم المصالح الاستراتيجية الروسية. ولم يقبل جورباتشوف بتوحيد ألمانيا وهدم حائط برلين إلا بعد أن اطمأن إلى عدم اعتزام حلف \"الناتو\" توسيع نفوذه شرقاً. أو على حد العبارة المحددة التي قالها له وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر: \"لن يتوسع الناتو شرقاً ولا بمقدار بوصة واحدة\". ولكن الذي حدث هو أن واشنطن نكثت بوعدها ذاك لاحقاً عدة مرات. كانت المرة الأولى من قبل إدارة كلينتون، ثم ثانياً من قبل إدارة جورج بوش الابن الحالية. واليوم تمدد التحالف العسكري الذي تقوده الولاياتالمتحدة ليشمل المنطقة المتاخمة للحدود الروسية الغربية بأسرها، من خليج فنلندا شمالاً وحتى البحر الأسود جنوباً. ويجدر بالذكر أن الدول التي انضمت حديثاً إلى \"الناتو\" في المنطقة المذكورة، فعلت ذلك خشية من عودة القوة الروسية هذه المرة. وتعتقد هذه الدول أن الحلف سيخوض الحرب دفاعاً عنها ضد روسيا، فيما لو تحولت هذه الأخيرة إلى مهدد أمني عسكري لأوروبا. غير أن هدف هذه الدويلات المجاورة لروسيا من انضمامها للحلف لم يكن وراءه دافع تطويق روسيا وتفكيكها وكسر أنفها كما يخطط لذلك البعض في كل من واشنطن وأوروبا. وهذا هو المخطط الذي ردت عليه موسكو بعنف في جورجيا. \r\n \r\n \r\n \r\n ويليام فاف \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع \"تريبيون ميديا سيرفيس\" \r\n \r\n \r\n