دمرت موجة جديدة من الصراعات العنيفة أفريقيا، ولم تؤد الحدود وعمليات السلام التقليدية سوى إلى نتائج محدودة جداً في احتواء الصراعات. الحرب الباردة الدائرة رحاها بين أثيوبيا وإريتريا تمددت إلى الصومال حيث دعمت إريتريا حركة «الشباب» الجهادية في قتالها ضد حكومة مقديشو التي تساندها أثيوبيا. وساهمت الحركة في تغذية تجارة العاج غير الشرعية وشنت هجمات إرهابية في كينيا المجاورة، أسفرت إحداها عن مقتل 67 شخصاً في مجمع تجاري في نيروبي الخريف الماضي. وساند السودان وجنوب السودان حركات التمرد كل في البلد الآخر، وقاتلت ميليشيا الجنجاويد السودانية في شرق تشاد وفي جمهورية افريقيا الوسطى. وبحثت مجموعة «جيش الرب» الأوغندية المتمردة التي يقودها جوزف كوني عن المأوى في جمهورية الكونغو الديموقراطية وعملت لنشر الخراب هناك. والحرب الأهلية في الكونغو هي الأكثر دموية بين كل الصراعات، وساحة لعمليات زعزعة استقرار مديدة من رواندا وأوغندا. الصراعات هذه ليست جديدة، لكنها لم تكن مترابطة أكثر مما هي عليه اليوم. في معظم الحالات، دعمت الشبكات الإجرامية أو حكومات البلدان المجاورة المجموعات المسلحة، من أجل السيطرة على أضعف دول العالم. لكن جهود حفظ السلام التقليدية فشلت دائماً في مواجهة هذا الواقع. وركز الوسطاء الأجانب -سواء كانوا من أميركا أو ألأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي- حصراً، تقريباً، على الفاعلين الأقوى عسكرياً. وجرت تجزئة مفاوضات السلام في السودان بين حكومة الخرطوم والمجموعات المتمردة الى صراعات إقليمية في منطقة أبيي والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان وجبال النوبة. بيد ان المقاتلين في هذه المناطق يتقاسمون هواجس متشابهة يتعين التعامل معها بعملية سلام شاملة واحدة. ديبلوماسيو الأممالمتحدة إلى جنوب السودان لم يعالجوا الصدوع المتسعة داخل الحزب الحاكم بعد نيل البلاد استقلالها عام 2011. وعندما ارتفعت حرارة النزاعات بين كبار السياسيين، كانت النتيجة انقسام جيش جنوب السودان وفقاً لخطوط الانتماء الإثني في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ما أفضى الى العنف العرقي وحرب اهلية اندلعت بسرعة كبيرة. في الكونغو أدت سلسلة من الصفقات والاتفاقات الى ضم امراء الحرب الى الجيش الوطني، لكن عملية السلام لم تعالج الأسباب العميقة للعنف هناك، بما فيها فساد الجيش والدولة الضعيفة ونهب الموارد الطبيعية للبلاد. وتمتلك المجموعات المسلحة ما دون الدولتية قدرة كبيرة على التدمير، رغم ندرة تناولها في مفاوضات السلام. وتزداد أسماؤها شهرة بمرور الأعوام. ونادراً ما تجلس هذه المجموعات الى طاولة المفاوضات، تغيب أحياناً لأنها لم تُدعَ وأحياناً لرفضها الحضور. ويبدو ان لا أهمية تذكر لمتابعة عمليات السلام من دون استراتيجيات لمواجهة هذه الجماعات، أو لإشراكها في المفاوضات التي تستثني هيئات المجتمع المدني والمدافعين عن المواطنين. ويتسم بالمقدار ذاته من انعدام الإنتاجية، إجراء انتخابات قبل أي إصلاحات سياسية وفرض عقوبات في حال استمرار تدفق الأسلحة بحرية عبر الحدود او ضم منتهكي حقوق الإنسان إلى الجيوش الوطنية، من دون تفكيك الجهات التي تساندهم أو النشر الكثيف لقوات حفظ السلام الأممية التي لا تتمتع إلا بتفويض محدود. ولكن، هذه هي قواعد تسوية النزاعات في أفريقيا اليوم. ثمة تفسير عقلاني للإخفاق البنيوي المذكور. فهذا العالم ما زالت فيه الدولة - الأمة هي اللاعب المسيطر، لذلك تنتهي غالباً عمليات السلام بتجاهل الآليات الإقليمية وما دون الوطنية. ورغم ان دولاً تعلمت الشيء الكثير عن كيفية إعاقة شبكات التمويل الإرهابية، الا انها لم تقم بما يكفي لوقف تمويل المجموعات الأفريقية التي ترتكب فظائع أو تطيل أمد الصراعات العنيفة. رغم ذلك، هناك سبب جديد تُعلّق عليه الآمال: أخيراً أحرزت تقدماً الجهود الرامية إلى وضع حد للعنف الرهيب في الكونغو، التي شهدت اكثر النزاعات تكلفة بشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتسود الاضطرابات القسم الشرقي للبلاد منذ منتصف تسعينات القرن العشرين. وتسبب اجتياح رواندا وأوغندا لشرق جمهورية الكونغو الديموقراطية عام 1998 في ما بات يعرف بالحرب العالمية الأفريقية الأولى التي انخرطت فيها تسع دول مجاورة. وتنتشر حركات التمرد المدعومة من رواندا وأوغندا في شرق الكونغو، وتسببت في مقتل اكثر من خمسة ملايين انسان. وبعد أعوام من عمليات صنع السلام وحفظ السلام الفاشلة، أفلحت مبادرة أفريقية اقليمية تساندها مبعوثة الاممالمتحدة ماري روبنسون والمبعوث الأميركي روس فينغولد في المساعدة على إلحاق الهزيمة بإحدى أكثر الميليشيات الإقليمية دموية، حركة «أم 23» نهاية عام 2013. نهضت المقاربة على ثلاثة أسس: الأول، تعزيز بعثة حفظ السلام الأممية ونشر ما سمّي «لواء قوة التدخل» الذي يضم ثلاثة آلاف جندي حصلوا على إذن باستخدام القوة القاتلة وساعدوا الجيش الكونغولي في تحقيق عدد من الانتصارات على «أم 23». الثاني، هو الجهد العسكري الذي اعقب سلسلة من العمليات رمت الى تجفيف السوق الدولية لما يعرف بمواد الصراعات، والتي تساعد في تمويل المجموعات المسلحة في الكونغو. وعمل كثير من الشركات الكبرى، بينها «آبل» و«هيوليت باكارد» و «إنتل» و «موتورولا سوليوشنز» على إصلاح سلاسل الموردين الدوليين التي كانت تسمح بدخول المعادن المستخرجة استخراجاً غير شرعي، إلى التبادل التجاري في الأسواق العالمية لتصل إلى الهواتف الخليوية وأجهزة الكومبيوتر في أرجاء العالم. أخيراً، كان الاساس الثالث ممارسة الولاياتالمتحدة وعدد من الدول ضغطاً فاعلاً على الراعي الخارجي لجماعة «ام 23»، أي الرئيس الرواندي بول كاغامي لوقف مساندته المجموعة. هذه المقاربة أثمرت في نهاية المطاف في الكونغو، ويمكن ان تشكل نموذجاً يحتذى لعمليات حفظ السلام وجهود الوساطة في أماكن اخرى، بما فيها جمهورية أفريقيا الوسطى ودولتا السودان اللتان تشتعل فيهما الحروب. نوع المقال: سياسة دولية