يوجد فارق يقدر بنحو عشرة ملايين دولار بين الثمن الذى تطالب به تركيا من أجل معاودة علاقاتها الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل، والثمن الذى قالت إسرائيل إنها مستعدة لدفعه. قد يكون هناك من يقول: «المال ليس مهما، المهم هو قيام المفاوضات التى هى نوع من العلاقات». لكن على الرغم من ذلك، فمن المفيد أن نذّكر بأول اقتراح إسرائيلى بدفع 100 ألف دولار مقابل كل قتيل تركى من مجموع التسعة قتلى الذين سقطوا جراء سيطرة الجيش الإسرائيلى على ما فى مرمرة (سفينة المساعدات التركية إلى غزة سنة 2010). لكن منذ ذلك الحين ارتفع الكرم الإسرائيلى إلى مليون دولار عن كل قتيل، ووصل اليوم إلى 2.2 مليون دولار، ولا شىء يضمن أن توافق تركيا على السعر الجديد. من المفيد أن نذّكر هنا بأن المطلب التركى كان فى البداية تقديم اعتذار إسرائيلى لا تعويضات ولا تغيير السياسة إزاء غزة. لكن على الرغم من صوابية الرد الإسرائيلى، فإن التمرغ فى لجان التحقيق سواء منها الدولية مثل لجنة بالمر، أو المحلية مثل لجنة تيركل، واستمرار الحصار الوحشى على غزة، أدى إلى «عتبة تركية جديدة». فلم تعد المطالبة التركية تقتصر على الاعتذار بل أصبحت تتضمن تعويضات ورفع الحصار عن غزة. ومنذ ذلك الحين تحول الأسطول التركى إلى مسألة قومية فى كل من إسرائيل وتركيا، بحيث بات أى تنازل معناه الخضوع وإلحاق الضرر البالغ بهيبة الدولة، وخسارة فى المعركة إزاء دولة هى فى الوعى لدى البلدين دولة معادية. وهنا بدأت المقاطعة السياحية، وإلغاء الصفقات التجارية، والضرر البالغ الذى لحق بالتعاون الاستخباراتى، والقطيعة الاستراتيجية التى يفوق ثمنها أضعاف أضعاف مبالغ التعويضات. خلال الثلاثة أعوام ونصف العام التى مرت منذ الهجوم على مرمرة، برزت شبكة علاقات جديدة بين الدولتين، غيرت الحلف القديم بصورة كاملة عما كان عليه، وليس فقط على الصعيدين الدبلوماسى والعسكرى. فقد برز وسط الجمهوريين التركى والإسرائيلى خطاب جديد تجاه أحدهما الآخر. وصُورت إسرائيل على أنها تتآمر على نظام أردوغان، وتدعم حزب العمال الكردى الذى تعتبره تركيا تنظيما إرهابيا، وكذلك صورت على أنها تنشط ضد تركيا على الصعيد الدولى، وأنها ترتكب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. وفى إسرائيل صورت تركيا دولة إسلامية متطرفة، متحالفة مع إيران وعدوة للغرب وشريكة لبشار الأسد (قبل أن تقطع تركيا علاقاتها بسوريا)، وباتت دولة معادية بكل معنى الكلمة. لكن فى الوقت الذى كان فيه هذا الخطاب العدائى يتجذر، اتضح مرة أخرى أن المصالح تتغلب على العواطف. ومن المفارقات أن الأزمة السورية تحديدا هى التى أدت إلى قراءة جديدة للخريطة الاستراتيجية، وساهمت فى تقريب إسرائيل من تركيا. فالتطلع إلى بلورة سياسة إقليمية مشتركة حيال سوريا، والتخوف من انتقال الحرب السورية إلى إسرائيل وتركيا، وتزايد قوة التنظيمات الإسلامية المنتمية إلى القاعدة فى سوريا، والتوتر حيال احتمال هجوم إسرائيلى ضد إيران، كل ذلك دفع الولاياتالمتحدة إلى الضغط على تركيا وإسرائيل من أجل إنهاء النزاع الهامشى بينهما الذى من شأنه أن يعرقل مساعى التعاون ضد سورياوإيران. وخلال الحفل الوداعى لأوباما فى مطار بن جوريون، اتصل نتنياهو هاتفيا بأردوغان وقدم الاعتذار المنتظر منذ عامين ونصف العام. لكن الاعتذار الذى كان سيهدّى خواطر تركيا قبل ثلاثة أعوام ونصف العام، وصل متأخرا جدا ولم يعد يلبى المطالب التركية. وتطلب مرور سنة جديدة كى توافق إسرائيل على دفع بند التعويضات التى لا تزال معلقة من دون توقيع نهائى. فى هذه الأثناء وبصورة هادئة، وافقت إسرائيل على إدخال مساعدات تركية إلى غزة تضمنت مواد بناء وسلعا استهلاكية. وعلى الرغم من أن الحصار الإسرائيلى على غزة لن يرفع فى وقت قريب، وأن وضع المليون وسبعمائة ألف فلسطينى هناك أصبح أسوأ مما كان عليه فى فترة الأسطول، فإن إسرائيل لبت جزئيا المطالب التركية. علاوة على ذلك، لم يعد فى استطاعة تركيا توجيه اللوم إلى إسرائيل فى ظل السياسة المصرية الصارمة التى تحاصر غزة من كل اتجاه، بما فى ذلك تدمير الأنفاق. اليوم وبعد أن أصبحت تركيا تعتبر عدوة فى نظر النظام المصرى العسكرى بسبب التأييد التركى للإخوان المسلمين، أصبحت أنقرة تفضل السكوت وعدم انتقاد الحصار المصرى، الأمر الذى تستفيد منه إسرائيل أيضا. بالنسبة لتركيا، ومع انتهاء مسألة التعويضات، تكون إسرائيل لبت جميع المطالب التركية من دون أى تنازل. بقى فقط تحديد موعد انتهاء احتساب التعويضات، ومعاودة العلاقات الكاملة بين الدولتين. ومن يحدد الجدول الزمنى هو أنقرة وليس القدس، إذ ستضطر أنقرة إلى درس تأثير معاودة علاقاتها مع إسرائيل على عملية ترميم العلاقة مع إيران. وهل سيكون من الحكمة معاودة العلاقات تحديدا فى الوقت الذى يبدو فيه أن مفاوضات السلام مع الفلسطينيين تنهار؟ وإلى أى حد سيساعد استئناف العلاقات مع إسرائيل فى ترميم المكانة السياسية لأردوغان الذى وضع تركيا فى عزلة إقليمية؟ نوع المقال: تركيا القضية الفلسطينية