الغرياني .. بهيئته المهيبة ولحيته البيضاء التى تؤطر ملامح هادئة قوية صارمة ، يصلح هذا الرجل كشعار مرحلة وعنوان مضىء من لحم ودم لما يجري في هذا البلد من سنوات طويلة قبل أن يتوج دوره المشهود في تاريخ مصر بخطبته المحكمة لغويا وسياسيا في حفل تسليم مسودة الدستور لرئيس مصر الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي. " الغرياني " اسما ودورا ، يمتد في تاريخ مصر المعاصر لسنوات كثيرة خلت حتى قبل أن يخلع الشعب مبارك وعصابته وأسرته، ويشارك – الغرياني – في صنع التاريخ الملهم من التصدي بقوة لبطش المخلوع ورجاله في الأمن والقضاء ، ذلك التاريخ المشحون بالنضال الذي توج بالإطاحة بالرئيس السابق وزمرته. فالغرياني المولود في 25 أكتوبر 1941 هو أول قاض في تاريخ مصر ينظم وقفات احتجاجية للقضاة عامي 2005 و 2006 وذلك في مواجهة بطش النظام السابق بالقضاة الذين تصدوا لتزوير الانتخابات البرلمانية عام 2005 ، ذلك البطش الذي بلغ ذروته في امتهان النظام المخلوع للقضاء والقضاء بإحالة المستشارين محمود مكي وهشام البسطويس ل"الصلاحية" بسبب تصديهما لتزوير الانتخابات. لم تكن تلك أول واقعة يتصدى فيها الغرياني لظلم المخلوع ، فالتاريخ سجل للمستشار الجليل أنه تحدى أقوى رجال مبارك وأقربهم له ولزوجته سوزان، عندما أصدر الغرياني عام 2003 حكما قضائيا تاريخيا ببطلان نتيجة انتخابات دائرة الزيتون بالقاهرة والتى كان الفائز فيها ومحتكرها زكريا عزمي الرئيس السابق لديوان مبارك، والذي بلغ نفوذه وجبروته أن أصدر مبارك له قانونا شهيرا مشبوها اسمه " قانون زكريا عزمي" يقضي ببقائه في منصبه مدى الحياة .. حتى الوفاة .. الوفاة التى لو جاءته سترحمه من السجن مع بقايا العصابة في " طرة ". الغرياني الذي تولى بعد ثورة يناير رئاسة المجلس الأعلى للقضاء بعد رئاسته لمحكمة النقض، كان بطلا لحلقة مهمة من تاريخ مصر المعاصر عبر جلسات طويلة عقدتها معه جماعة " الإخوان المسلمون" وقوى سياسية ووطنية أخرى لإقناعه بالترشح لانتخابات الرئاسة كمرشح لمصر الثورة في مواجهة مرشحي الفلول، لكن الرجل الزاهد في المناصب رفض تلك العروض. كان طبيعيا إذن أن يصبح المستشار الكبير حسام الغرياني هدفا لهجوم واسع من أطياف سياسية شتى بعضها ثوري وبعضها فلولي اتفقت على اتهامه بمجاملة التيارات الإسلامية خصوصا بعدما تولى رئاسة اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، وتناسى المهاجمون تاريخ الرجل المشرف في التمهيد بمواقفه العظيمة ضد مبارك ، لثورة يناير . الغرياني كان منذ قليل رمزا لمرحلة مهمة من تاريخ الوطن وهو يسلم مسودة أول دستور يصوغه الشعب المصري بيديه ، لرئيس الجمهورية المنتخب د.محمد مرسي، والذي مهد له الغرياني بخطبة ملهمة مشحونة بالمعاني التى طالما افتقدها المصريون في رموزهم السياسية. خطبة الغرياني قبل قليل نصبت نموذجا مهيبا لقاض يستحق مكانته ، قاض يبكي شهداء ثورة بلده وهو يذكر دورهم في غرس بذور هذه اللحظات. وبينما يحفظ المصريون كيف أن رموز القضاة المنتمين لمنظومة مبارك كانوا يخطئون في نطلق لغة الضاد أخطاء لا تليق بتلميذ ابتدائي ، مثل المستشارين : أحمد رفعت وفاروق سلطان وأحمد الزند وعبد المعز إبراهيم، فإن الغرياني بدا في خطبته اليوم بليغا متمكنا من اللغة وقواعدها وجمالياتها ، تمكنا بلغ ذروته في عدة استشهادات شعرية منها قول الشاعر أبو الحسن علي بن الجهم : كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا .. يرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر