إعادة كارت البنزين.. فخري الفقي يكشف عن الآلية الجديدة لدعم المحروقات    عاجل - لغز الطائرة الغامضة.. هل جاءت لنقل جثمان نصر الله إلى إيران؟ ( التفاصيل الكاملة)    "12 قتيلا من الفصائل الموالية لإيران".. آخر إحداثيات هجوم دير الزور    بايدن يتلقى إفادة بشأن الشرق الأوسط ويراجع وضع القوات الأمريكية بالمنطقة    إسرائيل: دمرنا قسمًا كبيرًا من مخزون حزب الله الصاروخي    أحدث ظهور ل يوسف الشريف في مباراة الأهلي والزمالك (صورة)    لافروف يرفض الدعوات المنادية بوضع بداية جديدة للعلاقات الدولية    الصحة اللبنانية: استشهاد 33 شخصًا وإصابة 195 بالغارات الإسرائيلية    وزير الخارجية: مصر حريصة على تعزيز التعاون مع الأمم المتحدة    عمرو أديب يشكك بركلة جزاء الأهلي ويقارنها بهدف منسي: الجول الحلال أهو    مدحت العدل: جوميز يظهر دائمًا في المباريات الكبيرة وتفوق على كولر    سحر مؤمن زكريا يصل إلي النائب العام.. القصة الكاملة من «تُرب البساتين» للأزهر    أول تعليق من محمد عواد على احتفالات رامي ربيعة وعمر كمال (فيديو)    حار نهارا.. حالة الطقس المتوقعة اليوم الأحد    "حط التليفون بالحمام".. ضبط عامل في إحدى الكافيهات بطنطا لتصويره السيدات    حكاية أخر الليل.. ماذا جرى مع "عبده الصعيدي" بعد عقيقة ابنته في كعابيش؟    صلح شيرين عبد الوهاب وشقيقها محمد.. والأخير يرد: انتى تاج راسى    مصر توجه تحذيرا شديد اللهجة لإثيوبيا بسبب سد النهضة    بعد انخفاض عيار 21 بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة (بداية التعاملات)    نجم الزمالك السابق: هذا الشخص السبب في خسارة الأهلي بالسوبر    «غرور واستهتار».. تعليق ناري من نجم الأهلي السابق على الهزيمة أمام الزمالك    الصحة اللبنانية: سقوط 1030 شهيدًا و6358 إصابة في العدوان الإسرائيلي منذ 19 سبتمبر    أسعار السيارات هل ستنخفض بالفترة المقبلة..الشعبة تعلن المفاجأة    «التنمية المحلية»: انطلاق الأسبوع التاسع من الخطة التدريبية الجديدة    راعي أبرشية صيدا للموارنة يطمئن على رعيته    نشرة التوك شو| أصداء اغتيال حسن نصر الله.. وعودة العمل بقانون أحكام البناء لعام 2008    الأوراق المطلوبة لتغيير محل الإقامة في بطاقة الرقم القومي.. احذر 5 غرامات في التأخير    ورود وهتافات لزيزو وعمر جابر ومنسي فى استقبال لاعبى الزمالك بالمطار بعد حسم السوبر الأفريقي    انخفاض جماعي.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024    القوى العاملة بالنواب: يوجد 700 حكم يخص ملف قانون الإيجار القديم    خاص| خبير عسكري فلسطيني: نتنياهو سيقود المنطقة لتصعيد لا يُحتمل إذا واصل مخططاته    ضبط شاب لاتهامه بتصوير الفتيات داخل حمام كافيه بطنطا    التحويلات المرورية.. بيان مهم من الجيزة بشأن غلق الطريق الدائري    حدث في منتصف الليل| السيسي يؤكد دعم مصر الكامل للبنان.. والإسكان تبدأ حجز هذه الشقق ب 6 أكتوبر    وزير الخارجية يتفقد القطع الأثرية المصرية المستردة في القنصلية العامة بنيويورك    برج السرطان.. حظك اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024: عبر عن مشاعرك بصدق    المنيا تحتفل باليوم العالمى للسياحة على كورنيش النيل.. صور    يوسف الشريف يبدأ تصوير فيلم ديربى الموت من داخل مباراة كأس السوبر.. صورة    أسعار الذهب اليوم في مصر بنهاية التعاملات    "100 يوم صحة" تقدم أكثر من 91 مليون خدمة طبية خلال 58 يومًا    اتحاد العمال المصريين بإيطاليا يوقع اتفاقية مع الكونفدرالية الإيطالية لتأهيل الشباب المصري    تعرف على سعر السمك والكابوريا بالأسواق اليوم الأحد 29 سبتمبر 2027    «شمال سيناء الأزهرية» تدعو طلابها للمشاركة في مبادرة «تحدي علوم المستقبل» لتعزيز الابتكار التكنولوجي    وزير التعليم العالى يتابع أول يوم دراسي بالجامعات    «الداخلية» تطلق وحدات متنقلة لاستخراج جوازات السفر وشهادات التحركات    تعرف على برجك اليوم 2024/9/29.. تعرف على برجك اليوم 2024/9/29.. «الحمل»: لديك استعداد لسماع الرأى الآخر.. و«الدلو»: لا تركز في سلبيات الأمور المالية    «احترم نفسك أنت في حضرة نادي العظماء».. تعليق ناري من عمرو أديب بعد فوز الزمالك على الأهلي (فيديو)    المخرج هادي الباجوري: كثيرون في المجتمع لا يحبون فكرة المرأة القوية    سيدة فى دعوى خلع: «غشاش وفقد معايير الاحترام والتقاليد التى تربينا عليها»    ضبط 27 عنصرًا إجراميًا بحوزتهم مخدرات ب12 مليون جنيه    باحثة تحذر من تناول أدوية التنحيف    خبير يكشف عن السبب الحقيقي لانتشار تطبيقات المراهنات    كيف تصلي المرأة في الأماكن العامَّة؟.. 6 ضوابط شرعية يجب أن تعرفها    أحمد عمر هاشم: الأزهر حمل لواء الوسطية في مواجهة أصحاب المخالفات    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد القافلة الطبية الأولى لقرية النصر    دعاء لأهل لبنان.. «اللهم إنا نستودعك رجالها ونساءها وشبابها»    رئيس هيئة الدواء يكشف سر طوابير المواطنين أمام صيدليات الإسعاف    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قواعد واشنطن: مسار أمريكا إلى الحرب الدائمة
نشر في الشعب يوم 10 - 07 - 2013

شغل مستقبلُ القوة الأمريكية المفكرين منذ عقود، خاصة عقب سقوط الاتحاد السوفياتى، وانتقال العالم إلى نظام الأحادية القطبية وسيطرة الولايات المتحدة. ومن أهم المؤلفات الصادرة منذئذ حول الموضوع كتاب المؤرخ بول كينيدى -أستاذ التاريخ بجامعة ييل الأمريكية- بعنوان «قيام وسقوط القوى العظمى»(1) وقد أكد من خلاله أن تصاعد تكاليف الإمبراطوريات بما يتجاوز عوائدها يؤدى لسقوطها، وكتاب جوزيف ناى -أكاديمى ومسئول سابق بالبنتاجون- «حتمية القيادة الأمريكية»(2) الذى طرح مفهوم الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية، وأنها بخصائصها اللينة تستطيع الاستمرار رغم تغير معطياتها الداخلية وظروف العالم الموضوعية.
وتناول المسألة أيضا المؤرخ الاقتصادى البريطانى نيال فيرجسون فى كتابه «الصنم: قيام وسقوط الإمبراطورية الأمريكية»(3) حيث بدا متشائما إزاء مستقبل القوة الأمريكية مقارنة بكتبه المبكرة، نظرًا لعدم عقلانية السلوك الاقتصادى الأمريكى فى العقود الماضية وسيره نحو الفوضى، خاصة فى أعقاب الأزمة المالية الأمريكية العالمية أواخر عام 2008. وقدم الاقتصادى الأمريكى جوزيف ستغلتز الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد والأستاذ بجامعة كولومبيا رؤيته فى كتاب «السقوط إلى الهاوية»(4) وهو عنوان واضح الدلالة على مستقبل الرأسمالية وقلعتها.
وقد رأى مفكرون أمريكيون أن علة التجربة الأمريكية مشروعها الإمبراطورى، الذى يمثل نقيضا لمشروعها كجمهورية «أرض الأحرار» و« دار الشجعان»،(5) حيث تمارس نفوذها عالميًا بالمثال الديمقراطى وقيم الحرية وتقرير المصير. لكن الجذور الأولى للمشروع الأمريكى حملت ملامح المشروع الإمبراطورى التوسعى التدخلى. فالدستور يعطى الرئيس صلاحيات شبه إمبراطورية، والروح الأمريكية التى تستلهم «الوعد الإلهي» و«أرض الميعاد» وتمثلات أمة الإيمان و«مدينة على جبل»(6) فى العهد القديم، تكرس الطبيعة التوسعية للمشروع الأمريكى. ويتفاقم الأمر بنزعة التدخل القائمة على فكرة خطرة بالوجدان الأمريكى تقول بفردانية وتميز الثورة الأمريكية وأنها الثورة الشرعية الحقة، وبارتباط قيام الولايات المتحدة بدور هام لها فى الأجندة الإلهية ومصير البشرية.
وهناك أكثر من مشروع وجهد فكرى لدراسة المشروع الإمبراطورى الأمريكى منذ تسعينات القرن الماضى، من بينها كتاب السياسى المحافظ والمرشح الرئاسى الجمهورى السابق باتريك بيوكانن(7)؛ ومؤلفات المفكر والأكاديمى الراحل تشالمرز جونسن (1931-2010) وهو الأبرز بهذا المجال. فقد شارك بتأسيس «مشروع الإمبراطورية الأمريكية» البحثى، وله مؤلفات أخرى مثل:(8) «النكسة: تكاليف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية» و«أحزان إمبراطورية: النزعة العسكرية، والسرية، ونهاية الجمهورية»؛ و«أيام الجمهورية الأمريكية الأخيرة». وشارك بتأسيس هذا المشروع المفكر توم إنغلهارت، ويصدر نشرة فكرية(9)، ونشر له(10): «نهاية ثقافة النصر: أمريكا الحرب الباردة وخيبة أمل جيل»؛ و«الطريقة الأمريكية فى الحرب: كيف أصبحت حروب بوش حروبا لأوباما»، وضمت صفحة تقريظ الأخير أسماء المفكرين المعارضين للنزعة الإمبراطورية مثل آدم هوتشايلد، ريبكا سولنِت، جوان كول، ووفى صدارتهم أندرو باسيفيتش مؤلف الكتاب الذى نعرضه. ويلاحظ أن هؤلاء المفكرين تتفاوت مواقفهم الفكرية بين محافظ وليبرالى ويسارى، لكنهم لا يتمتعون بالقبول فى الأوساط الصهيونية، خاصة اللوبى الإسرائيلى وأنصاره بالكونغرس والبيت الأبيض.
مبدأ حديقتنا أولا
مؤلف الكتاب أندرو باسيفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن، وعقيد متقاعد من الجيش الأمريكى. وهو مؤلف كتاب «النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة»، ولديه كتب أخرى. ونشرت دراساته بمجلات مثل «فورين أفيرز» و«أتلانتيك منثلي» و«نيشن»، وصحف مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال».
يقول باسيفيتش إن العالم -كما يقال باستمرار- أصبح أصغر من أى وقت مضى، وأكثر تعقيدا وخطورة. لذلك يصبح ضروريا للدولة أن تكثف الجهود المبذولة «للحفاظ على أمن أمريكا» ودعم قضية السلام العالمى فى آن واحد. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف أن تخصص الولايات المتحدة مزيدا من الأموال لوزارة الدفاع لتطوير وسائل جديدة للحصول على القوة، ولتكون متأهبة لحملات جديدة تعتبر ضرورية لإحلال السلام (أو لتحرير) أحد الأماكن المضطربة فى العالم. ويمكن ببعض الصعوبة حساب تكلفة هذه الجهود، حيث تصرف مليارات الدولارات، لتضاف سنويا إلى الدَيْن القومى، وعدد الجنود الأمريكيين القتلى والجرحى.
وضمن مستوى أعمق، نجد أن التكاليف الاقتصادية والاستراتيجية والإنسانية الناجمة عن سياسات واشنطن الإمبراطورية والتدخلية أضخم وأفدح من أن يتم قياسها. فهناك عائلات مزقها فقدان أحد أفرادها؛ وجنود يحملون ندوب القتال الجسدية أو النفسية؛ واستمرار بيروقراطية ثقيلة الوطء تقتات على جو السرية والمواراة والخداع الصريح وتشويه الأولويات القومية. حيث تمتص كبريات الشركات والمصالح الصناعية العسكرية الموارد القومية وتحرفها عن الضرورات والأولويات، بالإضافة إلى التدمير البيئى الذى يأتى نتاجا ثانويا للحرب والاستعداد لها؛ وإضعاف ثقافة الحياة المدنية لصالح عسكرة المجتمع. وينتج هذا عندما يتحمل الجنود وحدهم أعباء شن الحروب الدائمة، بينما تدعى غالبية المواطنين تبجيلهم، حتى لو كانوا يتجاهلونهم أو ينتفعون بخدمتهم.
المبرر الذى يمكن تقديمه فى هذا السياق هو أن واجبات قيادة الولايات المتحدة العالمية تتطلب أن تتولى بنفسها معالجة مشكلات تعانى منها باكستان واليمن والصومال، بالقدر الذى يفرض عليها التصدى لمشكلات تعانى منها أفغانستان والعراق. وبينما هناك أدلة قليلة تشير لاحتمال جدوى هذه الجهود، لا دليل مطلقا يشير إلى أن جهود أمريكا ستدعم السلام العالمى. أما إن كان هدف واشنطن الحقيقى -كما يظن كثيرون- أقرب للسيطرة والهيمنة، فسنجد أدلة وفيرة تظهر أنه مشروع هزيمة للذات.
يتساءل منتقدو السياسات الأمريكية عن جدوى محاولة إعادة تشكيل العالم قسرا على صورة أمريكا. فهم يعتقدون أن مجرد المحاولة مسعًى فاسدٌ وشكل إمبريالى ونزوع نحو العسكرة، مما يقوض المؤسسات الجمهورية بالبلاد. ليس هذا رأى حزب واحد، بل هنالك وجهات نظر كثيرة تتبنى هذا الرأى، وتصر على أنه إذا ما كان للولايات المتحدة مهمة ما، فهى أن تكون نموذجا للحرية لا أن تفرض هذا النموذج.
ومن المعارضين جورج كينان الدبلوماسى الشهير(11) الذى تحول لاحقا إلى مؤرخ، وهو محافظ ثقافيا، وكذلك السيناتور وليم فولبرايت ليبرالى عالمى التوجه. وهناك أيضا الناقد الاجتماعى المؤثر كريستوفر لاش، وهو يقدم نفسه كمفكر راديكالى، وأيضا مارتن لوثر كنج، الذى يمكن القول إنه الشخصية الأخلاقية الأكثر تأثيرا فى القرن الأمريكى الماضى.
كتب كينان إلى أحد معارفه أثناء الحرب الكورية قائلا إن الأمريكيين يعرضون بلادهم ومصالحهم للأذى لفترة طويلة جدا. وكان قد كتب «يبدو لى أن بلدنا تشوهه عيوب كثيرة -بعضها خطير جدا- ونحن مدركون لوجودها بشكل شامل، لكننا نفتقر إلى التصميم وقوة المجتمع المدنى اللازمين لتصحيحها»، وهنا الخطر الحقيقى. وأضاف أن «ما يجب أن يكون على المحك هو واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه مُثلِنا القومية». وفى إحدى محاضراته قبل فترة، عاد كينان إلى هذا الموضوع حيث قال إن المراقبين من الخارج يرون أمريكا بلا هدف اجتماعى ملموس أعلى من الإثراء الذاتى للفرد، حيث يحدث هذا الإثراء أولا فى سلع مادية وأدوات تثار الشكوك حول فائدتها فى تحقيق رضا أعمق بالحياة، وهذه رؤية تفشل فى بث الحماسة والثقة فى المستقبل.
وكان كينان يؤمن أنه بدلا من الهوس بشأن الخطر الذى يمثله الاتحاد السوفياتى، تحتاج الأمة الأمريكية لترتيب بيتها من الداخل، بإظهار القدرة على رعاية «علاقة سليمة حقيقية بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ونفسه». يمكن للأمريكيين «عندها وللمرة الأولى أن يكون لديهم ما يقولونه للناس فى أى مكان آخر»، وربما يصيرون أيضا «مصدر إلهام للآخرين».
بعد عِقد على مقولات كينان، وفى خضم حرب أخرى مثيرة للشكوك، يقيّم السيناتور فولبرايت تداعيات الاعتقاد بأن رخاء ورفاه الولايات المتحدة نفسها يتطلب التدخل المستمر بشؤون الدول. فكتب أنه «ليس واجبًا ولا حقًا للولايات المتحدة أن تصنف مشكلات العالم بأن حلها يحتاج لتطبيق قواعد واشنطن». وكتب فولبرايت -رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ- أنه «تحدث أشياء كثيرة بأماكن كثيرة، وهى إما أنها لا تخصنا أو تعنينا أو هى على أى حال خارج نطاق قوتنا أو مواردنا أو حكمتنا». لقد مضى وقت طويل جدًا بالنسبة للولايات المتحدة لتكرّس نفسها فقط لفعل الخير فى العالم، سواء بالجهود المباشرة أو بقوة القدوة والمثال الذى تقدمه. وأن تتخلى عن «فكرة التبشير الحافلة بمزاعم كونها شرطى العالم».
ووافقه على ذلك كريستوفر لاش الذى قضى عشرات السنين فى تشريح الثقافة الأمريكية بجرأة، قائلا إن «الوعد الحقيقى الذى تقدمه الحياة الأمريكية نجده فى الأمل فى أن تكون الجمهورية التى تمثل مصدرا لإلهام بقية العالم أخلاقيًا وسياسيًا، وليست مركزا لإمبراطورية العالم الجديدة».
وذهب مارتن لوثر كنج أبعد من ذلك. ففى خطابه ربيع عام 1967، عن الحرب فى فيتنام، أصر على أن الوقت حان «لكل من لديهم ضمير كى يدعوا أمريكا للعودة إلى الوطن». وقبل أن تحاول أمريكا إنقاذ الآخرين، ينبغى لها الاعتراف بخطاياها وأوجه قصورها وتصحيحها.
وبالنسبة لأى من هؤلاء الرجال، فإن العودة إلى الوطن لا تعنى السلبية أو العزلة. إنها تعنى إعادة النظر فى الأولويات القومية. وطغيان النزعة العسكرية على السياسة الأمريكية، والمتمثلة قبل كل شيء بحرب فيتنام، حوّل انتباه البلاد عن مواصلة دعوتها الحقيقية. فلا يزال العمل الشاق لتكوين مجتمع حر أبعد ما يكون عن الانتهاء. ولن تتمكن الولايات المتحدة من التعامل مع ما أشار إليه مارتن لوثر كنج ب«الثالوث العملاق: العنصرية، والمادية، والعسكرة»، إلا بالابتعاد عن الحرب.
يستحق المبدأ الأساسى الذى يؤمن به كل من هؤلاء الرجال أن يجدد فيه النظر اليوم، وهذا المبدأ هو أحد أشكال القناعات التى وضعها لأول مرة المؤسسون لمبدأ "زراعة حديقتنا أولا». وجوهر هذا المبدأ هو أن تحقق أمريكا ذاتها وتتمثل قيمها التأسيسية، وتسعى لإنجاز التطلعات التى تمت صياغتها فى إعلان الاستقلال والدستور الأمريكى، بحسب تأويلاتها المتواترة والمتتابعة لاحقا، وفى ضوء خبرات تم اكتسابها.
ومن ثم فإن الهدف السليم للسياسة الأمريكية ليس تخليص البشرية أو فرض نظام عالمى محدد، ولا العمل شرطيًا لكوكب الأرض بقوة السلاح. بل إتاحة الفرصة للأمريكيين لتأكيد حقهم فى تحديد اختياراتهم وغاياتهم وسعيهم لإقامة اتحاد أفضل فى بلادهم. وأى سياسة تعرقل هذا المشروع، كما تفعل الحرب المفتوحة، تعد سياسة ضالة وخبيثة.
ومن خلال إظهار جدوى تأسيس منهج للحياة قائم على القيم الإنسانية الليبرالية، قد تساعد الولايات المتحدة على إضاءة الطريق أمام من يسعون إلى الحرية. أو كما صاغها راندولف بورن(12) بقوله إن «التحول فى الداخل أساسى لنتمكن من العطاء بدون مقابل». إلا أن سمة «العطاء بدون مقابل» تعد فائدة إضافية- مكافأة- وليست الغاية المركزية للحياة الأمريكية.
وإذا كانت الولايات المتحدة لديها مهمة إنقاذ، فهى قبل كل شيء إنقاذ نفسها. وفى هذا الشأن، تحتاج قائمة الشرور (العنصرية والمادية والعسكرة) التى سجلها الدكتور مارتن لوثر كنج إلى شيء من التغيير والتبديل. إن عدد الخطايا التى تتطلب التكفير عنها حاليا يتجاوز الثلاث خطايا. ومع ذلك فإن كنغ -بإصراره أن على أمريكا شفاء روحها أولا- يظل اليوم هو الحكيم الذى يحسن الأمريكيون صنعا بالإصغاء إليه.
الثالوث البديل
بحسب باسيفيتش، هنالك أيضًا تقليد بديل يمكن للأمريكيين أن يلوذوا به، إذا ما اختاروا ذلك. و يرجع هذا المبدأ إلى أصول الجمهورية المضادة للإمبريالية، التى كاد يطويها النسيان. و يتلخص هذا المبدأ فى شعار «لا تعبث بمصيري»، وهو تقليد يحث على عدم السعى لإثارة المشكلات، لكن يصر على منح الآخرين الاحترام الواجب للولايات المتحدة. وليتم تحديثه بما يتناسب مع العصر الحالى، يمكن ترجمة هذا الشعار إلى البديل التالى للثالوث المقدس الذى شخّصه مارتن لوثر كنج.
أولاً: إن غاية الجيش الأمريكى ليس محاربة الشر أو إعادة تشكيل العالم، بل الدفاع عن الولايات المتحدة ومصالحها الأكثر حيوية. ومع أن القوة العسكرية تظل ضرورية، لكنها بذاتها ليست جيدة ولا مرغوبة. فأى دولة تُعرّف نفسها من خلال هيمنتها العسكرية، تضع نفسها على طريق الهلاك، وهو ما أدركته الأجيال السابقة من الأمريكيين بالفطرة. أما التفوق العسكرى، فإن الدروس المستفادة بشأنه من الماضى واضحة تماما، فهو وهم والسعى وراءه دعوة للفساد. لذلك، ينبغى للولايات المتحدة الحفاظ فقط على القوات اللازمة لإنجاز مهمة الدفاع الأساسية للمؤسسة العسكرية.
ثانيًا: موقع العمل الرئيسى للجندى الأمريكى هو أمريكا. ولا ينبغى للجيش الأمريكى أن يتحول إلى شرطى فى العالم أو قوة احتلال. إلا أن أسبابا عديدة قد تستدعى إقامة وجود عسكرى بالخارج مؤقتًا. وبدلا من أن يصير هذا هو القاعدة، وجب على الأمريكيين أن يعتبروا ذلك شذوذًا يستلزم نقاشًا عامًا وتفويضًا مسبقًا من الكونغرس. ويُعد تفكيك الشبكة الواسعة من قواعد البنتاجون العسكرية القائمة عملية طويلة. حيث ينبغى إعطاء أولوية التفكيك لمناطق جغرافية يكلف فيها الوجود الأمريكى كثيرًا ويحقق قليلاً. ووفقا لهذه المعايير، ينبغى للقوات الأمريكية الانسحاب فورًا من الخليج ووسط آسيا.
ثالثًا: اتفاقًا مع مبدأ الحرب العادلة، ينبغى للولايات المتحدة عدم استخدام القوة إلا عندما تكون هى الحل الأخير، على أن يكون هذا فى حالة الدفاع عن النفس فقط. أما مبدأ الرئيس السابق بوش (الابن) الخاص بالحرب الوقائية -يحق للولايات المتحدة منح نفسها حقًا حصريًا باستخدام القوة ضد تهديدات مزعومة حتى قبل تجسد هذه التهديدات- فهو مبدأ غير مقبول أخلاقيًا واستراتيجيًا، وهو النقيض الفعلى للحكمة السياسية المستنيرة. لقد فرض جورج بوش (الابن) هذا المبدأ مسبقًا ليبرر غزوًا مضللاً بلا ضرورة للعراق عام 2003. ولا يزال هذا المبدأ ينتظر إلغاء صريحًا من سلطات واشنطن. وعلى الولايات المتحدة ألا تشن مرة أخرى «حرب اختيار» فى ضوء أوهام تقول إن العنف يوفر طريقًا مختصرًا لحل تعقيدات التاريخ.
وعندما يصبح هذا الثالوث البديل أساسًا لصنع السياسة بواشنطن، ستليها تغيرات هائلة فى موقف الأمن القومى للولايات المتحدة. وسيتم حينها خفض الإنفاق العسكرى بشكل ملموس؛ وسيتقلص تواجد وزارة الدفاع الأمريكية عالميًا، وستنخفض أرباح مصانع الأسلحة، كما ستغلق الشركات «الاستشارية» بمحيط واشنطن -والتى تقدم خدماتها للحكومة- أبوابها. كما ستتضاءل صفوف مراكز الأبحاث المتخصصة بشؤون الدفاع. وستضيِق هذه التغيرات بدورها مجال الخيارات المتاحة لاستخدام القوة، وستلزم صناع السياسات بمزيد من ضبط النفس إزاء التدخل فى الدول الأخرى. ومع التخلص من تخصيص موارد لإعادة إعمار بغداد أو كابول، فإن قضية إعادة إعمار كليفلاند وديترويت قد تجذب أخيرًا الاهتمام.
اختيار
كان الرئيس ليندون جونسن يأمل أن يكون الإرث الذى يتركه، برنامج الإصلاح الداخلى الطموح المعروف ب«المجتمع العظيم». لكن بدلاً من ذلك، ترك جونسن لخلفه أمة منقسمة بمرارة، تعانى مشكلات كثيرة ويشيع فيها التشاؤم. وكان اتباع نهج مختلف سيتطلب من جونسن الخروج عن قواعد واشنطن. حيث افتقد جونسن كغيره من الرؤساء الشجاعة اللازمة لذلك.
هنا يكمن المغزى الحقيقى -وربما المأساوى أيضا- فى قرار الرئيس باراك أوباما، خلال سنته الرئاسية الأولى، بتصعيد الجهد الحربى الأمريكى بأفغانستان. وعندما أبقى أوباما روبرت غيتس وزيرًا للدفاع وعيّن جنرالاً مستشارًا للأمن القومى وآخر مديرًا للمخابرات، أكد أنه لا يفكر فى التحول عن النمط القائم لسياسات الأمن القومى، بقصد أو بغير قصد. فقد قدم الرئيس بهذه القرارات ولاءه الكامل ل«إجماع واشنطن»، وأزال أى شكوك عالقة بشأن استمرارية هذا الولاء.
وبرر أوباما فى خطابه الذى ألقاه مطلع ديسمبر/ كانون الأول عام 2009— حين شرح لطلاب أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية أسبابًا تجعله يشعر بضرورة توسيع حرب دخلت عامها التاسع أنه «كما لم تفعل أى دولة أخرى، تعهدت الولايات المتحدة بضمان الأمن العالمى لأكثر من ستة عقود، وهو وقت شهد انهيار الأسوار وفتح الأسواق وإنقاذ الملايين من الفقر، وتقدمًا علميًا غير مسبوق، وآفاقا متقدمة لحرية الإنسان». وأراد أوباما أن يعرف الجميع أنه بإرسال قوات إضافية بعشرات الآلاف للقتال بأفغانستان، تستكمل إدارته عملاً بدأه أسلافه، وأن سياساتهم سياساته.
العقود الستة التى أشار إليها أوباما فى تقديمه الذى يجمل التاريخ الحديث ببراعة، هى سنوات صعود العقيدة الأمريكية والثالوث الأمريكى المقدس (العنصرية والمادية والعسكرة) إلى موقع تفوق وسيطرة بلا جدال. هذا ما فعله الرئيس الذى جاء إلى السلطة متعهدا بتغيير طريقة عمل واشنطن، لقد أعرب عن نيته فى إبقاء هذا العنصر بالغ الأهمية والموروث من الإدارات السابقة دون مساس. ومثل جونسن الذى تبنى أجندة إصلاح داخلى جريئة، لكنه اضطر للتوافق مع الواقع القائم، اختار أوباما أيضا التوافق مع إجماع واشنطن.
ويتضح أن أى تصوّر حول تسامح واشنطن مع أى منهج يعيد التفكير بقواعد واشنطن، يعد مشاركة فى الخداع المتعمد للذات. فواشنطن لديها الكثير لتخسره إذا فعلت ذلك. وإن كان للتغيير أن يأتى يومًا، فيجب أن يأتى من الشعب. وطالما لم يدرك الأمريكيون الحقيقة، فستستمر واشنطن فى طريقها.
لذلك فإن الحاجة إلى التعليم -استدعاء الأمريكيين لتحمل مسؤوليات المواطنة الفاعلة المرتبطة بقضايا الأمة- أصبحت حاجة ماسة. وبالنسبة لباسيفيتش، فقد صار التعليم ممكنًا منذ زمن طويل. أما مواجهة الأوهام (بما فيها أوهامه الشخصية) -وتشريح المتناقضات المحيطة بالسياسة الأمريكية- فهى عملية مؤلمة وصعبة. لكنها تضمنت لحظات ابتهاج عظيم، كما حررته من الأوهام. إن الوعى الذاتى والقدرة على رؤية الأشياء هبة عظيمة.
يعتقد المؤلف أن على الأمريكيين اليوم أن يحسبوا حساب التعارض متفاوت النسب والأقدار. فمن خلال وعودها بالازدهار والسلام، تدفع قواعد واشنطن بالولايات المتحدة نحو الحروب المتواصلة والإفلاس. وفى الأفق يلوح حطام سفينة أسطورية. ويرى أن الاعتراف بالخطر الذى تواجهه البلاد يعنى أن نجعل التعليم ممكنًا، وربما تغيير المسار ممكنًا أيضًا. أما تجاهل الخطر بشكل إرادى فيعنى التواطؤ على تدمير ما يعلن معظم الأمريكيون اعتزازهم به. نحن أيضا علينا أن نختار، بحسب باسيفيتش.
معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: قواعد واشنطن: مسار أمريكا إلى الحرب الدائمة
Washington Rules: America's Path To Permanent War
المؤلف: أندرو باسيفيتش
عرض: د. مازن النجار - كاتب وباحث ومترجم عربي
السنة: 2010
الناشر: كتب متروبوليتان، هنرى هولت وشركاه، أغسطس/آب 2010
عدد الصفحات: 304
_____________________________
إحالات
1- Paul Kennedy, The Rise and fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500 to 2000, New York: Random House; 1987.
2- Joseph S. Nye, Bound To Lead: The Changing Nature Of American Power, New York: Basic Books, 1991 2
3- Niall Ferguson, Colossus: The Rise and Fall of the American Empire, New York, London: Penguin Books, 2004
4- Joseph E. Stiglitz, Free Fall: America, Free Markets, and the Sinking of the World Economy, New York: W.W.Norton & Company, 2010
5- تمثل هذه التعبيرات جوهر المضمون القيمى والمغزى الأخلاقى للتجربة الأمريكية فى جانبها الإيجابى، وهى موجودة فى النشيد القومى الأمريكي: “The land of the free.” “The home of the brave.”
6- حول الدين والسياسة فى أمريكا، انظر: طارق مترى، مدينة على جبل: عن السياسة والدين فى أمريكا، بيروت: دار النهار، 2004.
7- Patrick J. Buchanan, A Republic, Not an Empire: Reclaiming America"s Destiny, Washington D.C.: Regnery Publishing, Inc. An Eagle Publishing Company, 2001.
8- Chalmers Johnson, Blowback: The Costs and Consequences of American Empire, New York: Henry Holt & Co. 2004; Chalmers Johnson, The Sorrows of Empire: Militarism, Secrecy, and the End of the Republic, New York: Henry Holt & Co, 2005; Chalmers Johnson, Nemesis: The Last Days of the American Republic, Henry Holt & Co. 2008.
9- The Nation Institute"s TomDispatch.com
10- Tom Englehardt, The End of Victory Culture: Cold War America and the Disillusioning of a Generation, Boston: University of Massachusetts Press, 1995; Tom Englehatdt, The American Way of War: How Bush's Wars Became Obama's, Chicago: Haymarket Books, 2010.
11- جورج كينان هو الدبلوماسى الشهير بمرحلة الحرب الباردة، وهو الذى كتب المقال الشهير الذى خطّ سياسة احتواء الاتحاد السوفياتى بتوقيع «X»، ونشر بأحد أعداد مجلة «فورين أفيرز» سنة 1949.
12- راندولف بورن (1886-1918) صحافى وكاتب أمريكى تقدمى ومفكر يسارى مناهض للنزعة التدخلية، ولد فى بلومفيلد، نيوجرسى، وتخرج من جامعة كولومبيا، وعرف بكتابه «الدولة» الذى نشر بعد وفاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.