أصبح من الطبيعي أن تقتل جيوش إسرائيل المدججة بالسلاح الأمريكي الفتاك، المدفوع ثمنه من الخزانة الأمريكية، اثني عشر فلسطينياً في يوم واحد، بمن فيهم ثلاثة أطفال تحولت أجسادهم الغضّة إلى أشلاء متناثرة، بذريعة أنهم إرهابيون. ولكن، لا نتمكن من التحققّ حتى من أسمائهم في الصحف والمنشورات العربية، فهل تحوّل الشعب الفلسطيني برمته إلى "قادة" تستهدفهم الصواريخ الإسرائيلية؟ إذ كلما استشهد شاب فلسطيني برصاص غادر وهو في سيارته، أو طريقه إلى جامعته، أو إلى منزله، نقرأ في الأخبار: "قتلت إسرائيل قيادياً في حركة حماس أو الجهاد" والسؤال هو كم في فلسطين من "القادة" بعمر تسعة عشر عاماً؟
والمشكلة الحقيقية هي أننا لا نمتلك مصدراً مختلفاً للخبر عمّا يبثه أعداؤنا، ولا من يؤرشف حقيقة ما جرى، ويظهر للعالم العمليات اليومية لإبادة شعب كامل بشكل ممنهج ومدروس ومحدّد الأهداف. وكلما استشهد شاب عربي أشعر، كما شعرت الطفلة أزهار التي جلست واجمة فوق جثة والدها الشهيد ناصر مبروك في نابلس، (السفير 22 أغسطس 2007) تضع يداً على جبينه ويداً يتكأ عليها وجهها الحزين الذي يفطر القلب. لا أحد يتابع حياة الطفلة أزهار. وعشرات آلاف الأيتام مثلها، قبل وبعد الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحقهم، ولا أحد يؤرشف حقيقة ما يجري لهم اليوم، يوم وقوع الحدث، أبحث لأتحقق فقط من أسماء الذين استشهدوا، وأعمارهم، ونبذة عن حياة كل منهم، وأجد أن الإعلام الأجنبي لا يذكر أسماءً على الإطلاق، لأن مصدر الخبر الوحيد لديهم هو الإعلام الصهيوني، وهو بالطبع لا يكترث بذكر الأسماء، إذا كان الضحايا من العرب، وإذا كان الإعلام العربي مليئاً بما يشغله الآخرون من القضايا والمواضيع، وقلة هم الذين يذكرون الأسماء بحيث لم استطع أن أتأكد ما إذا كان الطفلان اللذان استشهدا أخوين كما قالت بعض الصحف: عبيد يوسف الكفارنة (12) عاماً وفادي الكفارنة (9) أعوام أم هما عبد القادر عاشور (12)عاماً وفادي الكفارنة (9) أعوام دون ذكر اسم الطفل الثالث الذي نقلت الصحف الإسرائيلية والأجنبية أنه أصيب إصابة بالغة نتيجة القصف الإسرائيلي.
وبالمناسبة فإن مصادر الجيش الإسرائيلي هي التي تنشر الأخبار عن الشهداء الفلسطينيين، باعتبار أنّ قتلهم للعرب انجازٌ يتفاخرون به، وتنقل عنها هذه الأخبار وكالات الأنباء العربية جميعها إما مباشرة أو عن طريق وكالة ثالثة. ولكن، إذا كنا اليوم نبحث عن حقيقة الأخبار ولا نجد مصدراً يعبّر عن أن إسرائيل تبيد شعباً بكامله من خلال القتل اليومي للأطفال والشباب، أو الحصار المنهك، أو قطع الكهرباء، أو إغلاق البوابات، أو ألف ومئتي حاجز في الضفة والقطاع تجعل حركة الفلسطينيين مستحيلة بينما نجد الأخبار على القنوات العربية تتحدث بنشاط عن خلاف هنا، وآخر هناك، بين أبناء لغة الضاد، وإذا كنا لا نرى في الشريط الإخباري سوى جملة واحدة عن ذكرى إحراق المسجد الأقصى 1968، الذي قد يتعرض بأي لحظة لما هو أشد دماراً، فماذا سوف يجد أبناؤنا عن هذه الأحداث بعد عشرين عاماً؟
إن أهمية الأرشفة والتوثيق، بالإضافة إلى أنسنة الحدث وإعطاء المصاب الأليم للأم والأب والطفل الفلسطيني حقه على المستوى الإنساني، تكمن في أن الباحثين بعد سنوات قد يجدون فكرة أو رأياً يعبران عن وجهة النظر العربية في الأحداث التي نشهدها اليوم. فبعد استشهاد اثني عشر فلسطينياً خلال يوم واحد لم أعثر على شيء يعبّر عن رأي عربي في الحدث سوى لقطة تلفزيونية سريعة لوالدة الطفلين تقول "ماذا أفعل كلّ النهار وأبناؤنا سجناء في المنزل يقولون لي:"يمّا عايزين نلعب، يمّا عايزين نخرج، وفي الليل هم خائفون يستيقظون مرعوبين ويصرخون يمّا الطيارة ، يمّا الصاروخ، نحن عايزين نعيش بأمان زي ماهم عايشين بأمان وعايزين أطفالنا زي ما همّ عايزين أطفالهم". هذه الأم العربية المنكوبة عبّرت بلهجتها الحزينة أكثر مما عبّر عنه مسؤولون رفيعون عن جوهر المشكلة: إن الشعب الفلسطيني هو الذي يفتقر إلى الأمان، وهو الذي يحتاج إلى حماية وهو الضحية الحقيقية للعنف والاحتلال والإرهاب، ومع ذلك فإن الأخبار جميعها تصوّره وكأنه هو مصدر العنف. كيف تمكنوا من أن ينهالوا قتلاً وتنكيلاً بالعرب بينما يبقون في نظر العالم أنهم هم الضحية وأن الضحية العربي هو الإرهابي؟
لقد استطاعوا فعل ذلك من خلال إيلاء اهتمام كبير ليس للحدث فقط، وإنما لترجمة الحدث إلى خبر وصورة ووثيقة في الأرشيف. وللذين راقبوا برنامجاً على "الجزيرة" بعنوان "أرشيفهم وتاريخنا" يرى أن مراكز الأبحاث لديهم قد أرشفت قيام إسرائيل بأول عمليات خطف للطائرات المدنية في الشرق الأوسط عام 1954، و1956، وفي الستينيات كي تقدمها مع التبرير المسبق الصنع الذي ظهر في البرنامج المعروض على قناة عربية، بينما لا يظهر أي رأي عربي على أي قناة إسرائيلية أو أمريكية. واستمراراً منهم بأرشفة الحدث وتوثيقه على طريقتهم، ومن وجهة نظرهم، فإنهم سوف يصنعون فيلماً في هوليود اسمه "ست ممرضات" يوثق لمعاناة الممرضات البلغاريات في ليبيا دون سرد القصة من وجهة نظر الأطفال الذين حقنوا بالايدز. ومؤخراً أعلنت إسرائيل أنها في صدد صناعة فيلم عن حربها في يوليو الماضي ضد لبنان يخلو من أي إشارة لانكسار جنودها أو هزيمتها مدركة أنه بعد سنوات ينشأ جيل لم يكن شاهداً على الحرب ويصبح الفيلم الذي صنعته إسرائيل الوثيقة التي يعتمد عليها الباحثون والدارسون لهذه الحرب في الغرب والشرق.
إذا كنا اليوم، ونحن نعيش الحدث، ونشهد الجرائم التي ترتكب بحق شعبنا بأعيننا غير قادرين على التحقق من اسم الطفل الذي استُشهد فمن سيكتب قصة قيام إسرائيل بارتكاب جريمة اغتيال هذا الطفل، وغيره الآلاف، غداً وكيف؟ لقد حاول المصوّر البريطاني جيمس ميللر نقل قصة أطفال فلسطين للعالم ولكن قوات الاحتلال الإسرائيلي قتلته في رفح في مايو عام 2003 وهو في ربيعه الرابع والثلاثين ولا تزال قضيته عالقة بين المملكة المتحدة وإسرائيل بعد أن تأكد المحققون البريطانيون أن إسرائيل قتلته عن عمد وسابق إصرار. من سيحمل قضايا أطفال وشباب فلسطين ولبنان والعراق الذين تقتلهم إسرائيل والولايات المتحدة يومياً عن عمد وسابق إصرار إذا كنا اليوم لا نسجّل قضاياهم كما يليق بها أن تسجَّل، ولا نوثّق أرشيفهم كما يليق به أن يوثق؟. إن إحدى العوامل التي تعتمد عليها إسرائيل في حربها ضد العرب هو "نسيانهم" لما حدث البارحة، بينما لا تنسى إسرائيل شيئاً ولو لمئات السنين لأنها تؤرشف الحدث كي تمتلك تفسيره، وتقوم بتحريف مجرياته بما يخدم سياسة الإبادة لديها. أولم تروا أن محاولة إسرائيل اغتصاب أرض فلسطينية تابعة لبيت الحسيني باسم "كرم المفتي" (30 دونماً في شرق القدس) قد بدأت عام 1968 لتهويد هذه الأرض ومازالت المحاولات مستمرة دون يأس؟. أولم تشاهدوا وتقرأوا طلباً إسرائيليا في مجلس الأمن لتغيير أسماء المناطق والقرى والمدن والأنهار العربية ليس في فلسطين وحسب، بل في الشرق الأوسط كله في حملة تهويد كاملة للمنطقة التي يريدون إقامة إمبراطورية التلمود عليها من النيل إلى الفرات، بعد أن وصلوا بقوة السلاح إليهما. بالمقابل ماذا يفعل سياسيو وإعلاميو ومثقفوا العرب المسلمين؟ إنهم مشغولون باختراع "أعداء" من لحمهم ودمهم، وبابتكار ما يزيد صفوفهم خلافاً وضعفاً، ويطبّعون مع عدو دموي يقتل أطفالهم في غزة، والجنوب، والفلوجة، ويغرق عراق الفرات بالدماء. لقد أرشفوا تحرير صلاح الدين للقدس فأصدروا وعد بلفور بالتاريخ نفسه... اليوم باليوم والشهر بالشهر. وارشفوا سقوط "دولتهم" على يد نبوخذ نصر قبل قرون، فأسقطوا بغداد في بحر من دماء وخراب وتمزق.
إن ما نحتاجه اليوم بإلحاح شديد هو التأريخ الفكري لما يحدث من إبادة مستمرة منذ قرن للوجود العربي من قبل الإسرائيليين والغربيين عموماً، والتوثيق لكلّ حدث بحيث يّطلع أولادنا وأحفادنا على حقيقة ما شهدناه، ونسلمهم الأمانة لكي يستمروا في الدفاع عنها إلى أن تعود لأصحابها الشرعيين. أشعر باستغراب داخلي أنني أضطر إلى أن أقول هذا لأبناء أمة علّموا العالم التوثيق، ومنهج الأرشفة، وأهمية المصطلح في نقل الفكرة والموضوع بحيث أدرك العرب منذ مئات السنين أن العلم هو موضوع ومنهج ومصطلح. وبهذا تمكنّوا من نشر فكرهم وقيمهم حتى بين صفوف الأقوام نفسها التي تعمل على إبادتنا بالحرب والمجازر والإخضاع، ومع ذلك تتهمنا "بالعنف" وتصرخ بأنها "الضحية". أما اليوم وفي الموضوع السياسي، وموضوع الحقوق المغتصبة، فلا توجد دائرة عربية تضع المصطلح الذي يعبّر عن جوهر الحدث من وجهة نظرها وتوثقه وتسلمّه للأجيال. إذا كان العرب اليوم غير قادرين على تحرير الأرض يجب أن يكونوا قادرين على صون الاسم، والخبر، والحدث من وجهة نظر عربية وبشكل يمكن إيصالها للعالم في الوقت المناسب. أولا نرى كيف يطالب البعض بتعويضات بعد عشرات السنين مما حدث لهم؟ فإلى من نترك نحن حقوق عوائل الشهداء واللاجئين والصامدين بأجسادهم لحماية المسجد الأقصى والمناضلين المؤمنين بحقوق هذه الأمة وقدرها الذي لا يمكن المساومة عليه أو المهادنة على مصيره؟