بعد سنوات من خدمته في لبنان سفيراً لبلاده، الولاياتالمتحدةالأمريكية، يبدو أن السيد جيفري فيلتمان قد توصّل أخيراً إلى حدّ مقبول من فهم أحد العوامل المشتركة بين العرب، إلاّ أنه للأسف ظنّ فهمه هذا تهمةً يشهّر بها في الإعلام مما استوجب توقفنا معه من خلال هذه السطور وتزويده بقبس حقيقي عن معنى استنتاجه باعتباره أصبح «خبيراً في شؤون الشرق الأوسط» يُعتَمد عليه في واشنطن، ليس فقط في التشاور بالشأن اللبناني، وإنّما في التشاور بشأن «العرب» ككل. وصف السيد فيلتمان المقابلة التي أجرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية أخيراً مع رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون بأنها « طريفة» وأضاف: «لو أنّ أحداً مرّر لي المقابلة وشطب الاسم، لكنت ظننت أنها كانت لبثينة شعبان في «تشرين» أو شيئاً من هذا القبيل، ولما كنت ظننت أنه كان نائباً في برلمان لبنان، أو شخصاً قاتل من أجل استقلال لبنان لسنوات».
فعلاً، إذا شطب الاسم يمكن أن تكون هذه المقابلة قد كتبت من قبل أي كاتب عربيّ حرّ حريص على وحدة لبنان ومستقبل لبنان، وهي تشبه مايكتبه عرب أحرار في وسائل إعلام المغرب أو الكويت أو تونس أو مصر في تشخيصها بأنّ الولاياتالمتحدة تعمل على زعزعة استقرار لبنان كما فعلت في أفغانستان والعراق، والصومال، والسودان، وتسعى إلى عدوان جديد على هذا البلد وغيره من البلدان العربية وإلى توسيع سياسة الزّعزعة والحروب لتشمل الشرق الأوسط كله. وهذه الوحدة في الرؤية والتشخيص بين أحرار العرب طبيعيّة جداً، ومتجذّرة جداً، لأنها بين أبناء شعب واحد يتحدّثون لغة عربية واحدة، ويتشاطرون القيم السماوية نفسها، ولهم تاريخ وجغرافيا مشتركة، كما يشتركون في هدف العيش بأمن، واستقرار، وسلام بعيداً عن التدخلات الأجنبية التي تفضي دوماً إلى فرض الاحتلال الدموي، وتقوية إسرائيل على حساب العرب كلّهم، وتمويل ودعم الاحتلال الإسرائيلي بالمال والسلاح لأرض العرب، ومقدساتهم. ولو كان السيد فيلتمان يقرأ الصحف العربية الصادرة في طول الوطن العربي وعرضه، وفي المغتربات لوجد المقالات المماثلة التي تعبّر عن الآراء الحرة يومياً التي يمكن له أن يرى فيها التطابق مع ما قاله الجنرال عون. ولكن، ولأنه يجالس طرفاً في لبنان يردّد ما يريد أن يسمعه فيلتمان، إرضاءً له ولإدارته في واشنطن، فقد ظنّ السيد فيلتمان، وبعض الظنّ إثم، أن هؤلاء هم اللبنانيون، وما عداهم لا يمثل لبنان. إنّ هؤلاء الذين يخالطهم ينسجون للامبراطور في عوكر، ثياباً من الوهم، ويعرف القارئ قصة«ثياب الامبراطور»، وكذاك الامبراطور، سيكتشف هذا الأخير أيضاً بأنه يسير متبختراً ولكن «بلا هدوم»! إن الخط الذي يعبّر عنه أحرار العرب في اللوموند، وغيرها، وقبلها وبعدها، هو الذي يمثّل لبنان الحضاري العربي الموجود في ضمائر أبناء لبنان، وضمائر أحرار العرب جميعاً في كلّ أقطار الوطن العربي.
إن «للاعتداد بالنفس» الذي تولّده غطرسة القوة هو وحده الذي يسمح للسفير فيلتمان بالتجرؤ على شخصية قيادية عامة في بلد يُفتَرض أنّه مجرّد«سفير» فيه. ولكن تصريحه يلفظ حقيقة جسّدها شعور السيد فيلتمان «بالطرافة»، ألا وهي أنه يعمل كمندوب سام في لبنان، يتدخّل في مسار الحدث فيه، وفق سياسة نشر الاضطراب الرسمية الأمريكية في الشرق الأوسط ولذلك يمنع بتدخلاته، «غير الدبلوماسية أبداً»، ولكن المنسجمة مع طموحات واشنطن الامبراطورية، التوافق والتقارب بين اللبنانيين، ويفاقم عن عمد الأزمة بين أبناء البلد الواحد، وينشر الفتنة الدموية في أرجائه عبر تمويل وتسليح العناصر والمجموعات «الإسلامية» المتطرفة. وهذا لم يعد يحتاج إلى براهين، فالجميع يعرف ذلك في لبنان، والمنطقة والعالم. ولكن من أين للسيد فيلتمان أن يشعر عمق الرابط الذي يجمع أبناء أمة واحدة رغم وجود بعض الأدلة أمام عينه. فحين كان في تموز عام 2006، ووزيرة خارجيته، يطلبون من أولمرت الاستمرار بحربه الدموية الوحشية على الأبرياء من أطفال ونساء لبنان، ويرسلون لهم على عجل القنابل العنقودية لتحصد المزيد من المدنيين اللبنانيين، كان الشعب السوري منهمكاً بمحبة وإيمان باستقبال الناجين من القنابل وقصف الطائرات الحربية الأمريكية الصنع من إخوتنا وأهلنا من لبنان، وتخفيف ألم المصاب عنهم الذي تسبّبه الهمجية العسكرية الإسرائيلية، وصلَف القوة الأمريكي الذي يستهين بحياة المدنيين العرب وحقوقهم ليس في لبنان وحسب، بل ومنذ عقود في فلسطين، ثم العراق. وبينما يجد السيد فيلتمان اللقاء في الموقف أو الرأي بين قائد سياسي لبناني أساسي، أصبحت الإدارة الأمريكية تجافيه لأنه يتمسك بمصالح شعبه وحريته واستقلاله، وكاتبة سورية «طريفاً»، تستمر قوات الولاياتالمتحدة بقتل ثلاثين ألف عراقي شهرياً«مجلة لا نسيت البريطانية، عدد12 تشرين الأول 2006» بعد أن قتلت الولاياتالمتحدة وفق هذه الدراسة، والتي لخّصها المختص بشؤون الشرق الأوسط الباحث الأمريكي المرموق جوان كول بالقول: إن مغامرة الولاياتالمتحدة في العراق مسؤولة خلال أقلّ من ثلاث سنوات (لأن الدراسة نشرت في 2006) عن قتل ضعف عدد المدنيين العراقيين الذين قتلهم صدام حسين خلال 25 عاما. ومع ذلك فقد قدّمت الولاياتالمتحدة الملجأ لأقل من ألف عراقي بينما تحتضن سوريا إلى حد اليوم حوالي مليوني عراقي نشاطرهم الماء والكهرباء والغذاء والتعليم والعناية الصحية، والمسكن، لأننا، أيها السفير الأمريكي، أبناء شعب واحد تريدون، وفق سياستكم الرسمية «الفوضى البناءة»، تمزيقه بالحرب والقتل والتعذيب. إن حقيقة وحدة العرب، وتوقهم للحرية والسلام والحوار، أقوى بكثير من الوهم الذي يسيطر على سياسة نشر الخراب باسم «الحرية» والمجازر باسم «الديمقراطية». مع تخصيص مليارات الدولارات للحروب والخراب ورفض دفع أية أموال لضحايا الحروب أو للسلام والتنمية. يبدو أن الأمريكيين لم يتعلموا من تجاربهم في فيتنام وبلدان أمريكا اللاتينية حيث حاولوا إحكام قبضتهم هناك من خلال الانقلابات، والاغتيالات، وشراء ذمم الانتهازيين، وهاهم الذين عذبوهم وسجنوهم يحكمون أمريكا اللاتينية اليوم، ويستثمرون ثرواتها لمصلحة وازدهار ووحدة وارتقاء وحرية شعوبها واستقلالها.
لاشكّ أن السيد فيلتمان وأسياده لا يمكن لهم أن يشعروا بشعورنا نحن العرب، من موريتانيا إلى البحرين، ونحن نراقب شاباً فلسطينياً اخترق صدره رصاص إسرائيلي غادر، يزحفُ ودمه يزحفُ بعده، ويخطّ التراب المقدس بدمه الطاهر ليحتضنه شبان آخرون تحت قصف دبابات يدفع ثمنها الشعب الأمريكي. ولا يمكن له أن يشعر بشعورنا ونحن نشاهد بوت جندي أمريكي يدوس قدسية وحرمة منزل عراقي آمن وينتهك حرمة النساء ويبث الرعب في قلوب الأطفال. ولا يمكن له أن يشعر بشعور الأمهات العربيات وهن يشاهدن جسد الطفلة زهراء حسن (15 أغسطس 2007 الجرائد العربية كلها) التي قتلها قصف أحدث مروحيات الموت الأمريكية، بعد أن دمّرت منزلها، وقتلت كافة أفراد أسرتها لا لذنب ارتكبته سوى أنها ولدت عربية، في مشهد يماثل تماماً مشهد اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة على أيدي جنود وضباط وحكام إسرائيل الملطخة بدماء الأطفال العرب. وإذا أراد السيد فيلتمان الاطلاع على ما تقوم به قوات الاحتلال الأمريكية من جرائم بحق المدنيين الأبرياء في العراق، والأمر ليس «طريفاً» أبداً، أنصحه بقراءة الدراسة التي نشرها البروفيسور الأمريكي مايكل شواتز في غلوبل ريسيرتش في (13 أغسطس 2007) بعنوان:«هل تقتل الولاياتالمتحدة عشرة آلاف عراقي يومياً أم أنها تقتل أكثر»، وإذا أراد أن يدرك أين ستُستخدم الثلاثين مليار دولار التي وقّعت حكومته على منحها لإسرائيل فليراجع بوابة حركة السلام الإسرائيلية "بتسليم" لتحدثه عن نتائج إشادة جدران الفصل العنصري على الشعب الفلسطيني، وعن القتل اليومي لأطفال وشباب ونساء فلسطين، وعن الحصار الذي تفرضه «واحة الديمقراطية» الغربية على الشعب الفلسطيني في غزة والذي هو وصمة عار على جبين الإنسانية «المتحضّرة» في القرن الواحد والعشرين لأنه إبادة جماعية مخطّطة ومنظّمة أمام بصر العالم وسمعه.
كيف يمكن لأمريكي يشعر بأن إخضاع لبنان أو العراق، أو فلسطين، هو مقياس نجاحه في«مهمّته»، أن يشعر بما نشعر به نحن العرب؟ هو ينظر لجيشه كمصدر للقوة، ونحن ننظر لجيشه نفسه كمصدر للخراب والمجازر، وهو يموّل إسرائيل بمليارات من الأسلحة ويتحدّث عن «السلام»، ونحن نرى أنّ هذه الأسلحة تقتل أطفالنا، وتحرمنا من الحرية والأمان والسلام. كيف له أن يعلم ما معنى أن يحلّل العرب تحليلاً واحداً، ويتوصّلون إلى استنتاج واحد، رغم أنهم لم يلتقوا في حياتهم، وهو لم يقرأ التاريخ أو التراث العربي، ولم يولد لحضارة نشرت الأديان كلها في أرجاء المعمورة، وابتكرت العلوم والفنون، وبنت،مثلاً، منذ ألفي عام، مسرحاً في بصرى الشام يتسع لخمس عشرة ألف مشاهد. إنّ ما تحتاجه الولاياتالمتحدة، وحكامها، هو أن تفهم هذا الرابط الحقيقي والمشترك بين كلّ أحرار العرب.
ها أنا أوكد، كما غيري من الأقلام العربية الحرة، بأن سياسة بوش في الشرق الأوسط تضع الولاياتالمتحدة على طريق غارقة بدماء الأبرياء من المدنيين العرب العزّل الذين تقتلهم يومياً جيوشها، وفرق الموت التابعة لمخابراتها، والأسلحة التي تزوّد بها إسرائيل.
من الطبيعي أن يرفض العرب التواقون للحرية، في جميع أقطارهم، سياسة الحروب، والسجون أو التعذيب، والحصار، وقصف البيوت وهم الذين سيكتبون تاريخها في النهاية رغم كلّ حملات الاستيطان والقهر والاحتلال والعدوان كما فعلوا على مدى آلاف السنين.
بعد تصريحه موضوع هذا المقال، اتصلت بي صديقتي من لبنان وقالت لي لو أن الإدارة الأمريكية قد وضعت أجهزة التجسس التي وضعتها في أمريكا للتنصت على الشعب الأمريكي، لو وضعتها في البيوت اللبنانية لاكتشفت كم يكره الشعب اللبناني برمته سياسة نشر الفوضى والفتنة الأمريكية في لبنان، كما يكره الأمريكيون سياسة سلب المليارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكان لقتل الملايين من العرب وتخريب بيوتهم وتدمير حياتهم.