على الرغم من أن الولاياتالمتحدة الأميركية تعد، حسب معايير العالم الليبرالي الرأسمالي، من أكثر دول العالم علمانية وديمقراطية، إلاّ أن أية مراجعة لتاريخها السياسي القصير نسبياً، منذ تأسست كجمهورية فتية، تشير إلى ثمة تقاليد ارتبطت وتطورت مع مؤسسة الرئاسة هناك. هذه أعراف أكثر من كونها تقاليد موضوعة على نحو مكتوب، بيد أنها بقيت صامدة أمام المتغيرات، اللهم إلاّ الآن، حيث تلوح احتمالات لا بأس بها لإزالتها أو لتجاوزها. من هذه التقاليد ما يتصل بجنس ولون وديانة الرئيس الأميركي، حيث كان جميع الرؤساء الأميركان من الذكور البيض الذين يعتنقون الديانة المسيحية البروتستانتية. هذه المعايير المتعارف عليها لا تبدو منطبقة على جميع المتسابقين إلى البيت الأبيض اليوم، كما سنرى. من منظور أول، تعد هذه هي المرة الأولى التي ترشح فيها امرأة، عبر الحزب الديمقراطي، للرئاسة الأميركية. وهي مرشحة قوية أو "ساخنة" بكل معنى الكلمة. هيلاري كلينتون تقف اليوم نداً إلى جانب أقوى المرشحين للرئاسة، حيث إنها تقود حملة انتخابية من الطراز الأول وبتكاليف باهظة. ومن ناحية أخرى، لا تأتي هيلاري من فراغ، ذلك أنها لعبت أدواراً سياسية مهمة في الحياة الأميركية المعاصرة، زيادة على أنها زوجة الرئيس الأميركي السابق، القوي الشعبية، بيل كلينتون. إنها امرأة "فولاذية" بكل معنى الكلمة، بغض النظر عن جمال شكلها الأنثوي الملحوظ، وبغض النظر عن ظهورها على شاشات الفضائيات لشرح طرائق انتقائها ملابسها من أرقى دور الأزياء في العالم. قد تكون هيلاري من اقوى المرشحين للرئاسة، ليس لأنها تراهن على اصوات النسوة اللائي يمكن أن ينتخبوها لأنها امرأة، ولكن كذلك لأنها كانت "السيدة الأولى" لولايتين رئاسيتين، بمعنى أنها ستكون قادرة على استثمار خبرة زوجها في صناعة القرار السياسي، بطريقة تراكم الخبرات، بطبيعة الحال. بيد أن السؤال يبقى ماثلاً أمام المتابعين: هل يمكن أن تكون مؤسسة الرئاسة الأميركية في يوم ما حكراً على عدد محدود من الأسر المتنفذة؟ ثمة مؤشرات تثير الخوف من هذا الهاجس، حيث رشح شقيق الرئيس القتيل جون كنيدي للرئاسة بعد أخيه في ستينيات القرن الماضي، إلا أنه قد قتل قبل أن يستثمر شعبية أخيه الراحل لتسنم الرئاسة في البيت الأبيض. كما أن الرئيس جورج بوش الابن قد أكد على هذه المخاوف من احتمال احتكار العوائل المشهورة للرئاسة عندما فاز رئيساً بعد عدد من السنوات من رئاسة والده. والآن تأتي هيلاري لترشح نفسها رئيساً للولايات المتحدة بعد عدد من السنوات كان زوجها قبلها رئيساً في البيت الأبيض! وإذا كانت هيلاري من نوادر حالات الترشيح للرئاسة الماثلة اليوم، فإن على المرء أن يلاحظ شخصية "باراك أوباما" Barack Obama. وهو مرشح ملون "افريقي"، كما يفضل الأميركان تسمية مواطنيهم السود. سبق أن رشح رجل أسود للرئاسة الأميركية، بيد أنه ما لبث وأن هزم في السباق ولم يحقق شيئاً يذكر. بيد أن أوباما يبدو كذلك مرشحاً ساخناً، بالرغم من النقد العريض الذي تعرض له بسبب عدد من المواقف السياسية المهمة التي أظهرته رجلاً قليل الخبرة السياسية. ومما يؤخذ عليه أنه صوت لصالح خفض النفقات العسكرية لصالح القوات المسلحة الأميركية في العراق، إذ عد هذا موقفاً "أدنى وطنية" أو أقل حرصاً على أرواح هؤلاء الجنود. كما يؤخذ عليه تصريحه الأخير، أنه لو كان رئيساً لأطلق هجوماً عسكرياً كاسحاً على مواقع طالبان في باكستان، باعتبار ما أسماه "تقاعس" الحكومة الباكستانية من القيام بذلك. ومع هذا كله، لم يزل اوباما يظهر في المناظرات مع أقرانه من المتسابقين للرئاسة، مراهناً، هذه المرة، ليس على الناخبين السود الذين يتمنون رؤية رجل ملون في البيت البيض، ولكن كذلك على الجمهور العريض من خلال نقده اللاذع لسياسات الرئيس الجمهوري جورج بوش، خاصة في العراق وأفغانستان. ولا يدري المرء كيف سيتعامل اللوبي اليهودي مع باراك أوباما في حالة تخطيه العواقب الأولية حتى يكون المرشح الديمقراطي الوحيد أمام المرشح الجمهوري. ومن منظور آخر، يقف أمامنا المرشح "مت رمني" Mitt Romney، وهو رجل أبيض ومسيحي لا يختلف عن غيره إلاّ بأنه يعتنق "المورمونية" Mormonism. "المورمون" هم طائفة مسيحية تعد أقلية نسبية في الولاياتالمتحدة، ولكنهم لا يحظون بالشعبية التي يحظى بها البروتستانت نظراً لما يدعيه المورمون من التشويه الذي لحق بعقائدهم على ايدي مواطنيهم. ويبدو أن أهم الأساليب التي اتبعها الجمهور المسيحي العريض في الولاياتالمتحدة لنقد المورمون هو سماحهم وحتى تشجيعهم لتعدد الزوجات بلا حدود، الأمر الذي يتجسد في عوائل متكونة من رجل وثلة من الزوجات وأعداد كبيرة من الأطفال. رومني لا ينكر بأنه موروني، مدعياً أنه سيحاول تصحيح الأفكار والمفاهيم الخاطئة الموجهة لحرف صورة طائفته التي يكثر أتباعها في ولاية يوتا. ولكن إضافة للسماح بالتعدد اللامحدود للزوجات، يقول النقاد الأميركيون لهذه الطائفة إنها تنتهج اسلوباً تأويلياً مبالغاً به للكتب المقدسة: فالمورمون يتكلمون عن الخالق وكأنه كان يوماً إنساناً مثلنا، كما أنهم يؤمنون أن الخلاص يعني دخول الزوج والزوجة مملكة السماء Celestial Kingdom حيث يمكن لهم أن يتحولوا إلى آلهة أنفسهم! إن المورمون يؤمنون بأعمدة الديانة المسيحية الرئيسية كلها، ولكنهم يعتقدون أن الإنجيل لم يترجم ترجمة صحيحة، لذا فإنهم يرفدونه بكتاب مقدس خاص بهم اسمه (كتاب المورمون) Book of Mormon، زد على ذلك، إيمانهم بعودة المسيح المخلص القريبة حيث ستجتاح العالم أنواع الكوارث والعذابات والأوبئة حد الدمار المطلق Armageddon. أما عقائد المورمون الأخرى، فهي غريبة وفيها شيء من الاختلافات عن المسيحية واليهودية. ولهم من المواقع الالكترونية الكثير المبني على اساس المفاهيم الخاطئة التي يحملها الأميركان ضد المورمون، زيادة على هدف التبشير بدينهم، ليس لأي فرد، ولكن لكل من يريد الخلاص بصدق. إن الرئاسة الأميركية مرشحة اليوم، أكثر من اي وقت مضى، لأن تُعتلى من قبل رئيس جديد غير نمطي، بمعنى أنه قد يكون امرأة أو رجلاً ملوناً أو واحدا من أتباع الديانات أو الطوائف الصغيرة التي لا يعرفها الكثيرون حتى من الأميركان. لذا يبدو العام القادم، عام الانتخابات الرئاسية، عاماً مشحوناً بالمفاجآت، ليس فقط على المستوى الأميركي، ولكن كذلك على المستوى العالمي، نظراً لتأثير أميركا الكبير على مجريات الأحداث الدولية.