بقلم: د. احمد مصطفى لم يدعم الاميركيون، حلفاء تركيا في حلف شمال الاطلسي (ناتو)، المؤسسة العسكرية التركية في تحديها للحكومة التي رشحت وزير الخارجية عبدالله غول لرئاسة الجمهورية، كما ان الاتحاد الاوروبي التزم الحياد داعيا لحل ازمة الرئاسة التركية في اطار سلمي حسب قواعد الدستور. وهكذا بدا بيان رئاسة اركان الجيش التركي الرافض لترشيح غول للرئاسة اقصى ما يمكن ان يفعله الجيش خاصة وان مظاهرات الاحزاب القومية والعلمانية يوم الاحد حرصت على انها لا تريد وصول مرشح حزب العدالة والتنمية للرئاسة لكنها لا تريد انقلابا عسكريا كذلك. وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يوصف بالميول الإسلامية وكان زعيمه رجب طيب اردوغان نائبا لزعيم حزب الرفاه نجم الدين اربكان الذي ابعده الجيش في تركيا عن السلطة بشكل أو بآخر، قرر ترشيح غول بعدما صرح الرئيس المنتهية ولايته احمد نجدت سيزار بأنه لا يمكن ان يصبح اردوغان رئيسا لأنه سيصبغ الدولة التركية بصبغة اسلامية تتعارض مع الأسس العلمانية للدولة التي ارساها مصطفى كمال اتاتورك. وبغض النظر عما ستقرره المحكمة الدستورية التركية بشأن الجولة الأولى من انتخابات البرلمان للرئيس التي لم يفز فيها غول بفارق بسيط، بعدما لجأت احزاب المعارضة للقضاء على اعتبار ان نصاب الجلسة البرلمانية لم يكتمل، فإن الازمة الحالية تثير عدة ملاحظات ربما تتجاوز تركيا الى المحيط الاقليمي وربما أوسع. وقبل التطرق لتلك الملاحظات نشير الى انها لا ترتبط بما يمكن ان تسفر عنه الازمة الحالية سواء دخلت المحكمة الدستورية على موجة المعارضة ونقضت جلسة التصويت البرلمانية وما قد يستتبعه ذلك من انتخابات عامة في غير موعدها أو استمرت جلسات التصويت الثانية والثالثة، ولا حتى باحتمال نيل غول منصب الرئاسة ام لا. أول تلك الملاحظات، هو ان الكثير من نظم السلطة في العالم ديموقراطية او شمولية أو ما بينهما اصبحت اقل شفافية واكثر قربا من التصرفات الاستثنائية التي غدت سمة مميزة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وان كانت ارهاصاتها بدأت من نهاية القرن الماضي. فالقواعد والاصول التي تم التعارف عليها لم تعد تحترم كثيرا من جانب السلطات في غالبية انظمة الحكم، وبدأنا نشهد اصدار القوانين الكثير وتعديل القوانين الموجودة وتعديل الدساتير الى حد تغيير انظمة الحكم بالكامل بالقوة المسلحة الخارجية بدعوى رغبة الجماهير في عدوان سافر على قوانين السيادة القطرية التي تشكل ركيزة القانون الدولي. صحيح ان المجتمعات، والبشرية جمعاء، تتطور ويتطلب ذلك تطوير نظم تعاملاتها، لكن ما يجري خصوصا في اعتى الديموقراطيات يقمع ذلك التطور عنوة ويهدر الكثير من المكاسب التي تحققت عبر نضالات طويلة متنوعة. الملاحظة الثانية والمرتبطة بالاولى ان الديموقراطية، بالمفهوم الغربي الشائع، لم تعد النموذج الأمثل لحماية الحقوق والحريات الفردية وصون اسس المجتمعات ومقوماتها الاصيلة. ناهيك عن التجاوزات المستمرة في الدول الاكثر وعظا بشأن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، وهي تجاوزات تنتهك ابسط مبادئ الديموقراطية الغربية في جوهرها وان تسربلت بالشكل بطريقة تنم عن نفاق كريه. وليس هذا مجرد رأي من خارج تلك المجتمعات، بل ان عددا لا بأس به من عقلاء الغرب بدا يطرح علنا، عبر الكتابات والنقاشات الجادة، مثالب الديموقراطية في ظل الانتهاكات الحالية لها من الانظمة الديموقراطية ذاتها. الا ان الملاحظة الاهم، والتي تبدو وثيقة الصلة اكثر بالأزمة التركية، فهي دور الجيوش والمؤسسات العسكرية في صوغ السياسات الداخلية والاستراتيجيات الاقليمية للدولة الوطنية. واذا كان ذلك الدور بلغ اوجه بعد الحربين العالميتين في القرن الماضي وموجات الاستعمار التي شكلت الجيوش وسيلتها الرئيسية وما تبعها من حركات تحرر واستقلال وتداول للسلطة عبر انقلابات عسكرية في كثير من الدول النامية، فإن دور المؤسسات العسكرية اخذ في التراجع على كل الاصعدة في السنوات الاخيرة. صحيح ان المؤسسة العسكرية لعبت دور التوازن في بعض الدول في اوقات الاضطرابات السياسية الداخلية بشكل سلس، كما حدث في السودان مع حركة عبد الرحمن سوار الذهب الذي استولى على السلطة في وقت فوضى ليجري الانتخابات ويسلمها للمدنيين وما حدث في موريتانيا مؤخرا، لكنها كانت بلا دور في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي شهدت تغيرات عبر حركات جماهيرية. واذا كانت المؤسسة العسكرية لا تزال تمثل عصب الدولة في بعض التكوينات، فتلك اقرب الى الاقطاعيات السياسية كما هي الحال في الكيان الاستيطاني الاسرائيلي في فلسطين. كما ان القوة العسكرية الهائلة لم تفلح في التغيير الايجابي، وان تمكنت من التدمير الشامل، كما هو حال القوة العسكرية الاميركية في افغانستان والعراق. والامثلة كثيرة في مناطق الصراعات الممتدة منخفضة الحدة في مناطق مختلفة من العالم. ربما يعتبر اختبار دور المؤسسة العسكرية في تركيا مدخلا لدراسة اوسع واكثر تعمقا لدور المؤسسة العسكرية في الدولة الحالية، والتي لا يتسع لها المجال هنا. لكن المؤكد ان الجيش التركي الذي غير خمس حكومات من قبل لن يستطيع بسهولة انفاذ ما يريد في الازمة الحالية.