ليست هذه هي المرة الاولى التي تظهر فيها في الأفق الفلسطيني بوادر تشير الى احتمال انفجار انتفاضة شعبية ثالثة، على غرار الانتفاضة الاولى المجيدة التي لم توقف اندفاعها سوى اتفاقيات أوسلو المشؤومة. هذه البوادر والمؤشرات تعاود الظهور كلما وصل فيها الوضع داخل فلسطينالمحتلة الى استحكام أزمة كبرى تبدو معها كل المخارج الحقيقية والكاذبة مستحيلة الى درجة تستدعي انفجار انتفاضة شعبية عميقة وعارمة ومتصلة، أي على صورة تستعيد الانتفاضة الاولى المجيدة، لكن مع تطوير أساليبها بالدرجة التي ازداد فيها نضج نضال شعب فلسطين في مواجهة احتلال غاشم وسلطة عاجزة. كل ما في الأفق الفلسطيني يشير الى استفحال واستحكام أسباب الازمة الكبرى: 1- انكشاف كل المؤشرات السابقة التي كانت توحي بأن نجاح أي منها سيؤدي الى تطبيق كل بنود المصالحة الوطنية بين فتح وحماس، وأهمها توقيع الطرفين على اتفاقية المصالحة. وها هي شهور تمر على توقيع حماس المتأخر على الاتفاقية، تؤكد ان لا شيء على الصعيد العملي يشير الى احتمال سير المصالحة الى خواتيمها العميقة والحقيقية. 2- تعاظم أمر الدائرة المفرغة للمفاوضات والتي تدور كطاحونة تطحن السنوات دون أي طائل، بل تتحول هذه السنوات، سنة بعد أخرى، ستارا لمزيد من انتشار سرطان الاستيطان الاستعماري، الذي يأكل الضفة الغربية، والقدس العربية شبرا شبرا، دون أن يستفز ذلك أية قوة دولية أو عربية للتحرك باتجاه وقف حازم ونهائي لهذا النزيف الذي لا يبدو قابلا للتوقف. 3- استفحال مسيرة هدر الكرامة الوطنية الفلسطينية، التي وصل بها الامر الى حد طلب السلطة الفلسطينية، من سلطة الاحتلال الاسرائيلي، ان تتوسط لها لدى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بمليار دولار يسهل لها أمور الإنفاق اليومي، وذلك في مشهد تفتضح معه المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية وكأنها ليست في حقيقتها وعمقها أكثر من أسلوب خبيث وغير مباشر، لتنظيم شؤون الاحتلال الاسرائيلي، وإحاطة استمراره واستفحاله بحالة من الخدر الفلسطيني المستمر بمخدر المساعدات الدولية. 4- نضوب رصيد الإنجازات الوطنية الفلسطينية الكبرى الى درجة الاحتفال العظيم بقبول اليونسيكو إدراج كنيسة المهد في بيت لحم على قائمة التراث الفلسطيني الواجب المحافظة عليه. وهو بالطبع أمر إيجابي، لكنه عندما يقف وحيدا في مجال الإنجازات الوطنية الفلسطينية، يدعو الى الرثاء لا الى الاحتفال. 5- انسداد الأفق أمام آلاف الأسرى الفلسطينيين المكدسين منذ سنوات طويلة في السجون الاسرائيلية، في ظروف لا إنسانية، لدرجة قيامهم قبل مدة بمبادرة حرب الأمعاء الخاوية، يقاومون بها سلطات الاحتلال التي تبدو شديدة الاطمئنان والارتياح والثقة بالنفس. ولما لم تؤد معركة الامعاء الخاوية الى أي نتيجة، طوّر الاسرى الفلسطينيون تحركهم تطويرا جذريا هذه المرة، فبدأوا مبادرة الاتصال بالمحافل الدولية لإثارة وضعهم بصفتهم «أسرى حرب» لدى اسرائيل، وليسوا مجرد معتقلين امنيين، لأنهم انما ينشطون لمقاومة سلطة احتلال، لا سلطة وطنية. ويعتمد الاسرى في ذلك على إثارة اتفاقية جنيف الثالثة وملحقاتها، وهو الامر الذي كان يجب أن تتبناه وتتحرك باتجاهه السلطة الوطنية الفلسطينية منذ إنشائها، لان هذه الاتفاقية الدولية تعتبر كل من يعتقل وهو يقاوم سلطة احتلال، بأنه أسير حرب. 6- غير ان ما يؤكد ان كأس المرارة الوطنية الفلسطينية قد طفحت فعلا، هي الزيارة التي كان مزمعا ان يقوم بها لرام الله مجرم الحرب الاسرائيلي شاؤول موفاز، رئيس حزب كاديما بعد ليفني، حيث تفجر الاحساس بالكرامة الوطنية المهدورة، في صفوف شباب رام الله، الذين خرجوا يقاومون الزيارة بأجسادهم العارية، وبتشكيل جمعية أطلقوا عليها اسم «فلسطينيون من أجل الكرامة»، بعد ان تعرضوا لعمليات قمع عنيف، أدى الى سقوط جرحى، من قبل قوات الشرطة الفلسطينية، لا الاسرائيلية. عندما تتجمع بوادر الازمة بهذه الكثافة، وتصبح عملية هدر للكرامة الوطنية لشعب فلسطين، إضافة الى حالة الإفلاس المادي التي تمر بها السلطة الفلسطينية استكمالا لحالة الافلاس السياسي، فإن الامور تبدو مضغوضة الى درجة لا بد ان تصل الى تفجير بركان انتفاضة ثالثة، تكون هذه المرة استعادة للانتفاضة الاولى، ولكن مطورة بكل أساليب الخبرة السياسية والعملية التي اكتسبها شعب فلسطين في مواجهة وحشية الاحتلال الاسرائيلي، وشراهته للاستطان التي لا تتوقف عند حد. أرى في الأفق تباشير انتفاضة ثالثة تعود للارتفاع بالقضية الفلسطينية من مجرد حرب حدود نشبت في العام 1967، الى جريمة تطهير عرقي بحق شعب كامل وقعت في العام 1948. *كاتب سياسي