في نيويورك، دارفور أهم قضية في العالم، أو هذا على الأقل ما يرى الزائر أو المقيم ويسمع، فهناك ألوف الملصقات، من أنفاق المترو إلى سطح الأرض، تتحدث عن «إبادة جنس» وعن 400 ألف قتيل، مع إعلانات في الصحف والتلفزيون، ولوبي إنقاذ دارفور يزعم انه يضم 180 منظمة تمثل 130 مليون أميركي، وهدفه الضغط على الكونغرس والإدارة لوقف «إبادة» الجنس إياها ومعاقبة حكومة الخرطوم.
دارفور كارثة إنسانية رهيبة، لا يجوز أبداً التقليل من أهميتها، ولا أفعل، غير أن الأممالمتحدة قالت إن القتلى 200 ألف، وإن ما ارتكب هناك كان جرائم حرب، لا إبادة جنس.
أختار ان أصدق الأممالمتحدة لا لوبي إنقاذ دارفور، لأن هذا هو لوبي إسرائيل باسم آخر، فالهدف هو تحويل الأنظار عن جرائم إسرائيل، أو كارثة الحرب في العراق.
الحرب الأميركية على العراق قتلت في تقدير وسطي طبي 655 ألف عراقي، أي أكثر من ثلاثة أضعاف قتلى دارفور، وربما خمسة أضعاف إذا صدقنا التقدير الأعلى القريب من مليون ضحية. مع ذلك لا نرى في نيويورك ملصقات عن الضحايا العراقيين، ولا نقرأ عن «إبادة جنس»، أو عن مطالبة بمعاقبة عصابة الحرب بتهم إبادة الجنس، أو على الأقل بتهم ارتكاب جرائم حرب.
اليوم أكمل من حيث اختتمت أمس فإمبراطور الميديا الأميركية في العراق من دون ثياب، والصحافة الأميركية العريقة والقادرة لم تقاوم الحرب في العراق كما فعلت إزاء فيتنام، ولم تحاول كشف المسؤولين عنها كما رأيناها تفعل في فضيحة ووترغيت، والسبب، في رأيي الشخصي على الأقل، أن الضحايا عرب ومسلمون.
في دارفور الضحية مسلم، وهناك 200 ألف ضحية من المسلمين قتلهم مسلمون، واللوبي، سواء كان لوبي إسرائيل أو دارفور، لا يدافع عنهم، وإنما يستعملهم ستاراً من دخان يحجب الجرائم الأخرى من فلسطين إلى العراق، فلوبي إسرائيل كان نشطاً جداً في السعي إلى الحرب، ولا يزال يدافع عنها، أي انه يؤيد قتل شباب أميركا في حرب غير مبررة لحماية أمن إسرائيل.
وهكذا فالصحافة الأميركية غير مهتمة لأن الضحية من العرب والمسلمين واللوبي يمنع نقاشاً في العمق ويحول الأنظار عن جرائم ترتكب كل يوم في فلسطين والعراق.
إذا كان هناك من شك في مدى نفوذ اللوبي فالمؤتمر السنوي لإيباك الشهر الماضي وفّر رداً كافياً، فقد استقطب أركان الإدارة والمعارضة الديموقراطية في آن، ونائب الرئيس ديك تشيني ألقى خطاباً عنوانه «الولاياتالمتحدة وإسرائيل نقف متحدين» ووعد إسرائيل بتأييد لا يتزحزح، وزعيمة الغالبية الديموقراطية في الكونغرس نانسي بيلوسي أكدت ان الولاياتالمتحدة تقف مع إسرائيل الآن وإلى الأبد. وباختصار، فقد أعلن اللوبي ان نصف أعضاء مجلس الشيوخ ونصف أعضاء مجلس النواب شاركوا في المؤتمر السنوي الذي سمع كلمات من مئة مسؤول أميركي وضيف، ومن إسرائيليين مثل رئيس الوزراء إيهود أولمرت عبر الأقمار الاصطناعية، ووزيرة الخارجية تزيبي ليفني حضوراً.
أزعم ان لوبي إسرائيل الرسمي، أي اللوبي اليهودي «إيباك» لا يمثل اليهود الأميركيين، فهو بقيادة أقلية متطرفة من أنصار الحرب في حين ان غالبية اليهود الأميركيين وسطية ليبرالية تجنح للسلام دائماً. وانتخابات الرئاسة الأميركية دليل قاطع، ففي حملتي جورج بوش الابن سنة 2000 وسنة 2004 لم يؤيده من اليهود الأميركيين أكثر من 20 في المئة، أي ان 80 في المئة منهم صوتوا ضد أكثر رئيس أميركي ناصر إسرائيل، وهذه أعلى نسبة لمجموعة اثنية أو دينية في الانتخابات الأميركية.
أعتقد بأن اللوبي في طريقه لدفع ثمن تطرفه، وعدم تمثيله غالبية اليهود الأميركيين، ففي حين ان تمويل الحملات الانتخابية يخرس المرشحين إلا ان المدونات، أو البلوغز، حرة من مثل هذا التأثير، وهناك الآن مدونات كثيرة تتحدى اللوبي وتفند كذبه وتطرفه، ولها جمهور كبير، غير ان مثل هذا الموضوع يحتاج إلى صفحات لمعالجته، فأقول ان بين قادة الحملة ضد اللوبي أصحاب مدونات من اليهود الأميركيين الليبراليين الذين بدأوا يسجلون نجاحاً ملحوظاً، خصوصاً بعد ان تجاوز اللوبي الحدود وأصبح يتهم يهوداً باللاسامية، لمجرد انهم يعارضون تجاوزات إسرائيل.
لن أحمّل اللوبي وحده مسؤولية حرب العراق، فالصحافة الأميركية، خصوصاً ذلك الجزء الليبرالي العظيم منها، مسؤولة قبل غيرها. وأرفض ان أصدق ان صحفاً مثل «نيويورك تايمز» عجزت عن معرفة تزوير رسائل يورانيوم النيجر، أو متابعة التزوير، كما فعلت يوماً مع «ووترغيت» في حين ان صحافية إيطالية شابة اكتشفت التزوير بسهولة، كما أكد التزوير الدكتور محمد البرادعي، رئيس وكالة الطاقة الذرية الدولية. كذلك لا أصدق ان الصحافة الأميركية لم ترَ أخطاء واضحة فاضحة في خطاب جورج بوش عن حالة الاتحاد في 28/1/2003، أو في خطاب وزير الخارجية (في حينه) كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي في 5/2/2003، وهو خطاب قال باول عنه في وقت لاحق أنه أسوأ نقطة في تاريخ عمله السياسي.
أعضاء مجلسي الكونغرس وقفوا وصفقوا طويلاً لبوش، والصحافة الأميركية نشرت مدائح في خطاب باول، ولو كان التقصير من الصحافة العربية، المقصرة أصلاً، لقبلت عذرها، غير ان الصحافة الأميركية أذكى من ان تخدع، ولها من تقاليدها وحرياتها ما كان سيسهل عليها كشف جريمة الحرب لو أرادت. وللحديث بقية بعد أيام.