أخرج البخاري، وأحمد عن حذيفة: "إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا فأما الذي يرى الناس أنها النار فماء بارد وأما الذي يرى الناس أنه ماء بارد فنار تحرق فمن أدرك منكم فليقع في الذي يرى أنها نار فإنه عذب بارد". ونحن مأمورون بأن نأخذ ناره، ونترك جنته. والمغزى واضح؛ فإن جنته هي إغراءاته من الملهيات والشهوات التي تمكن له من استعبادنا والتحكم في رقابنا، وناره هي السلاح الذي يساعدنا في منازلته ومقاومته والقضاء عليه. وكان المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري – في تفسيره - يرى أن الإفرنج (الغرب) هم المسيح الدجال، وأن المقصود من الدجال قد حصل، وهو إنذار أهل القرى بالشهوات ودخول أصحابه البلاد، وقد تم كل هذا فضحكوا علينا بنسائهم وشهواتهم وأخذونا بالتخويف. كل هذا قد تم. وربما كان الدجال حقيقة كلية تطلق على النصابين والكذابين واللصوص؛ فكل هؤلاء دجالون صغار؛ ولكن أكبر الدجالين هم الذين يسرقون الدول، ويقتلون الأمم؛ فهم يُذكَرون في مقابلة الأنبياء، ولذلك يُذكَر المسيح مع الدجال. وها نحن أولاء وقعنا في فتنة أصحابه الذين ابتدءوا ببلاد الأندلس، وما قتل أهل الأندلس إلا أنفسهم بانغماسهم في تجاراتهم وإضلالهم وأحوالهم واتبعناهم نحن في بلاد الشرق، ولقد رأيت في الحديث أننا أُمرنا أن ندخل في ناره ونتجنب جنته ولقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من اغتروا بأهل أوروبا وجنتهم أصبحوا عبيدا لهم، ومن اتبعهم فقد ذل ذلا عظيما، وأول من قبل ذلك من المسلمين أهل الأندلس؛ فإنهم لما شربوا خمرهم، ولبسوا منسوجاتهم، ودخلوا مدارسهم، وقرءوا سير آبائهم، وصاروا تلاميذا لأساتذتهم، وتعاملوا بالربا من مصارفهم، وأصبحوا مترفين منعمين، وانغمسوا في ملاذهم، وأكلوا في مطاعمهم، واستقذروا بيوت آبائهم، كان ذلك مبدأ ضعفهم؛ فأذلوهم أجمعين، وقتلوهم أكتعين أبصعين[1]، ورموا من بقي منهم خارج البلاد، وساموهم سوء العذاب بما كانوا يجهلون. ذلك منذ أربعمائة سنة، ثم توالى فتح الفرنجة للبلاد حتى ملكوا بلاد مصر والشام والعراق والهند وتخللوا إلى الصين ولم ينالوا كل مقصدهم هناك، كل ذلك أيها الذكي سر قوله تعالى: )وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا( (27/النساء). وجاء في الحديث أن المسيح عليه السلام هو الذي يقتل الدجال: "فينزل عيسى بن مريم صلى اللهم عليه وسلم فأمَّهم فإذا رآه عدو الله (الدجال) ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته" (مسلم من حديث أبي هريرة). والمعنى واضح إن الباطل لا وجود له أمام الحق فيذوب أمامه وينتهي. ورغم أن الأخبار الواردة عن الدجال في الأحاديث الشريفة تدل على شخص محدد، فإنه ليس ما يمنع من أن يسبقه، ويساوقه (أي يصاحبه ويكون معه) دجالون كثيرون؛ فقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا دجالا كلهم يكذب على الله وعلى رسوله" فدل الحديث على كثرة من الدجالين بحيث يكون الدجال الأكبر تجسيدا للمفهوم الكلي للدجل والدجاجلة من ناحية وأكثرهم خطرا من ناحية أخرى، وفي هذا العصر الذي نحن فيه؛ فإن أكبر الدجالين هو الذي يزيف الحقائق، ويريد أن يسوق العالم لتحقيق أغراضه وشهواته، وفي سبيل ذلك يقهر الأمم والشعوب، اغترارا بقوته. لقد جاء في صحيح مسلم أن مع الدجال جبال من الخبز واللحم، ودجال اليوم قد كدس الثروات ليعطي ويمنع. ادعى دجال اليوم أن في العراق أسلحة دمار شامل، وكأن الأسلحة حكر عليه، وكدس قواته في مناطق الخليج الغنية بالنفط، لكي يتحكم في هذه السلعة الحيوية فيتحكم في رقاب العباد. ولا عليه إن ارتفعت الأسعار، وحدث التضخم ووقع الكساد؛ مادامت خزائنه قد امتلأت بالأموال. ويشبه التحالف الذي كونه الدجال لهذا الغرض مجموعة من الضواري بقيادة ذئب أغبر يتبعه عدد من الثعالب وأبناء آوى ثم في نهاية القافلة بعض الجرذان. وحين يلاقي الذئب الأغبر مصيره المحتوم، ستدرك تلك الضواري وهذه الجرذان التي تعلقت بأذياله، أن سعيها هذا لم يكن إلا غِواية )مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( (41/العنكبوت).
الله يحكم في الملوك، ولم تكن دول تنازعه القوى لتدولا
لقد أوشك هذا الحلف الذي ساقه الدجال ليحقق به أغراضه، أوشك اليوم أن يتداعى، فبعد نفجيرات لندن، رغم أن طوني بلير – وهو دجال آخر – قد سارع إلى نفي ارتباطها باحتلال العراق وأفغانستان؛ إلا أنني لا يراودني شك في أنه إما أن ينسحب من هذا الحلف أو يقصى من منصبه ويتم الانسحاب أيضا بعد أن بات زيفه واضحا وضوح الصبح لذي عينين. وبعد أن ينطمر هذا الدجال الصغير في لُجة التاريخ، سينهار حلف الفُجَّار هذا؛ لأنه لن يبقى مع الدجال الأكبر إلا عدة بلدان توابع ستنسحب راضية أو مكرهة، ويجد الدجال الأكبر نفسه وحيدا موحولا في طينة العراق إلى أن يلاقي مصيره المحتوم، فتنجرف معه باقي الفئران والعناكب. ومن الطريف أن الدجال في الوقت الذي واصل فيه ليل نهار قصف أفغانستان، كان يلقي بالمواد الغذائية من الجو لمساعدة الشعب الأفغاني البائس. وقد تكون هذه خطة لضرب الأفغان فيما يسمونه بعملية "صيد الثعلب"، بمعنى أنه كما يضع الصياد طعاما لفريسته حتى يغريها بالوقوع في الفخ؛ فكذلك يقذف الدجال بالطعام؛ لكي يخرج الأفغان من مخابئهم؛ فتصطادهم القنابل. وفي مزار الشريف بأفغانستان حجزت زبانية الدجال الأسرى مقيدين مكبلين في قلعة، ثم ضربتهم الطائرات بالقنابل من السماء، بينما أجهزت على بقيتهم قوات عبد الرشيد دوستم من الأرض؛ ثم أسرى آخرين نقلوهم في حاوية مغلقة حتى ماتوا خنقا!. ثم أسرى غيرهم نقلتهم مكبلين مخدرين إلى جزيرة كوبية؟. بل ابتدعت لهم مخيلة الدجال المريضة زيا أحمر ناري، حتى تصورهم في صورة أبالسة قادمين من أعماق الجحيم. وصرح مساعد الدجال في تبجح لا مثيل له بأن هؤلاء الأسرى لا تنطبق عليهم اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب. وما حدث لأسرى أفغانستان حدث لأسرى العراق! وتحدث العالم كله حديثا مدعوما بالصور عن فظائع زبانية الدجال مع أسرى العراق. وقبلها راح آلاف الضحايا في القصف الجوي المستمر، مع استخدام الأسلحة المحرمة دوليا مثل القنابل العنقودية واليورانيوم المنضب! بل وقصفت طائرات الدجال محطات الماء والكهرباء في المدن العراقية، وقصفت السيارات المدنية؛ بل وسيارات الإسعاف مواجهة من الأرض وليس من الجو، وهو ما تفعله إسرائيل بمباركة الدجال في فلسطين والفلسطينيين!!. كل هذا مع مزاعم الحرية والتحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان. أم أن الحرية - كما فسرتها محاكم التفتيش تعني حرق الخصوم حتى تتحرر أرواحهم؛ فينعموا بالخلاص الأبدي. أم على طريقة نابليون – وهو أحد الدجاجلة الكبار – حين أراد أن ينصب نفسه قنصلا مدى الحياة؛ وكان للجنود أن يشتركوا في التصويت؛ فوقف أحد قواده وخطب فيهم قائلا: "إن الأصوات حرة حرية تامة؛ لكني أنذركم بأن أي جندي أو ضابط يرفض تعيين نابليون سوف يعدم بالرصاص على رأس فرقته، ولتحيا الحرية"، أم على طريقة عنترة بن شداد حين قال:
يقول لك الطبيب دواك عندي إذا ما جس نبضك والذراعا ولو علم الطبيب دواء داء يرد الموت ما قاسا النزاعا وسيفي في الهيجا طبيب يداوي رأس من يشكو الصداعا
أم على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي حين قال: "من استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه، ومن ثقلت عليه رأسه وضعت عنه ثقله". وموقف هذا الدجال ليس بدعا في أمته، فقد بدأ ظهورها بجريمة إبادة جماعية ضد شعب بأكمله – هو شعب الهنود الحمر - وكان هذا هو موقفها الثابت منذ ظهورها على المسرح الدولي كقوة عظمى، ففي سنة 1952م، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الكبرى الثانية؛ أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان أن الولاياتالمتحدة استجابت لإلحاح العناية الإلهية فقبلت أن تأخذ عبء زعامة العالم على عاتقها. وكان إعلان ذلك على لسان الرئيس الذي ألقيت بأمره أول قنبلة من قنابل الدمار الشامل على هدف مدني (هيروشيما ونجازاكي).[2] ودائما – بشكل لحوح مستمر ومتواصل – كان كل من استهدفته أمريكا شيطانا إبليسا أو من زبانية الشيطان إبليس. وبالتالي كان قتال أمريكا له عملا مقدسا من أعمال الله على الأرض فهم أمة درجت منذ ظهرت على الاعتقاد بأنها، في كل ما تفعل – حتى وإن كان ما تفعله جريمة إبادة جماعية لشعب بأكمله – تقف في صف الله وتنفذ رغباته. فالهنود الحمر، مثلا كانوا أشباه بشر، وأبالسة من أعماق الجحيم، وأعداءً للمسيح؛ ولذا فإن إبادتهم كانت عملا خيِّرا من أجل المسيح وضد الشيطان إبليس عليه لعنة الله. تماما كما سيدعي الربوبية دجال آخر الزمان؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عمر: "وقال سالم قال ابن عمر ثم قام النبي صلى اللهم عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور". لقد تباينت مواقف الإنسان من عالمه تباينات عميقة من عصر إلى عصر؛ فاليونان – بعزوفهم عن التمادي في الكبرياء، وتورعهم عن الاعتداد الفائق بالنفس، ولإيمانهم بقوة القَدَر التي أعلاها فكرهم فوق قوة إلههم الأكبر زيوس نفسه، حاذروا دائما من الانجراف إلى اتخاذ أي موقف منطوٍ على الاجتراء والعجرفة في مواجهة الكون. ثم جاءت العصور الوسطى، فتمادت – في ظل المسيحية – في الخضوع والامتثال وجعلت تواضع الإنسان فضيلته الكبرى في عيني الخالق. وفي ظل ذلك الموقف، باتت المبادرة الإنسانية مكبوحة الجماح في كل المجالات، وأصبحت الأصالة مطلبا شبه مستحيل. ثم جاء عصر النهضة، فردَّ إلى الإنسان كبرياءه واعتداده بآدميته، لكنه تمادى في ذلك الاعتداد تماديا أفضى إلى الكوارث والفوضى. وإن كان عصر الإصلاح الديني والإصلاح المضاد قضيا على ما حققه عصر النهضة، فإن الفكر الحديث اتجه إلى إحياء الغرور الإنساني بقدر جعل الإنسان؛ وقد أوشك أن يصبح إلها على الأرض، يتأله على النحو الذي سبق ودعى إليه البراجماتي الإيطالي جيوفاني بابيني عندما حثَّ الإنسان على أن يحذو حذو الله. وذلك طموح ينطوي على خطر مهلك يمكننا تسميته بالعقوق الكوني، وهو ضرب من الافتقار إلى التقوى الحقيقية والورع يطلق الغرور الإنساني من قيود التواضع تجاه الخالق والكون، ويجعله يخطو خطوة أخرى على درب مفضية إلى نوع من الجنون الخطر هو الثَمَل بالقوة، وهو جنون يبدي الإنسان المعاصر استعدادا خاصا للإصابة به. وأنا، فيما يخصني، لا يراودني شك في أن ذلك الثَمَل بالقوة هو أفظع خطر يتهدد العالم في هذا العصر من حيث إنه مفضٍ في خاتمة المطاف إلى كارثة كبرى للعالم كله. ذلك أن التوازن أمر مقصود في الكون واختلاله يدفع إلى إستعادته؛ فإن من شأن هذا الاختلال أن يدفع القوى الأخرى إلى استعادة قوتها لمواجهته. لقد شهد العالم دجاجلة كبارا انتهوا بعدما أثاروا المشاكل، وهل كان نابليون – كما قال قيصر روسيا إلا حصانا جامحا أزعج أوروبا بصهيله؟. نعم قامت إمبراطوريات كبرى استمرت فترات من الزمان – وبعضها استمر قرونا، لكنها لم تستمر إلا على أساس متين؛ وعلى قوة أساسها يكون مدى استمرارها؛ ولا يكون هذا الأساس إلا رسالة أخلاقية أولا وقبل كل شيء؛ وقد قالوا في مأثور الحكمة: "ما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع". لقد اقتضت الحكمة الإلهية، ألا تنفرد قوة بالهيمنة على الكون، وأن كل شيء وكل موجود له مقابل، والقوة المطلقة لله وحده سبحانه وتعالى )وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْه ُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ( (61/الأنعام). ------------------------------------------------------------------------ [1] أكتعين: (أذلاء)، وأبصعين: (حمقى). [2] أمر الرئيس ترومان بإلقاء القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس عام 1945؛ فأودت بحياة 78150 شخصا، بالإضافة لآلاف المشوهين، ثم أمر بإلقاء القنبلة الثانية على نجازاكي في 9 أغسطس فحصدت أرواح 73884 شخصا، وجرحت وشوهت 60000 آخرين بالإضافة إلى الإبادة الكاملة لكل كائن حي نباتا أو حشرة أو حيوانا.