رغم أنّ مالي قطعت، خلال العام الجاري، خطوة هامة في اتجاه إعادة إحلال السلام في البلاد، وذلك من خلال توقيع اتّفاق، في يونيو الماضي، بين الحكومة المركزية في باماكو وأبرز المجموعات المسلّحة الناشطة في الشمال، إلاّ أنّ المشهد السياسي لم يتمكّن، أياما قليلة قبيل حلول 2016، من التخلّص من ارتباك يلازمه منذ أكثر من 3 سنوات. مسار سلام تبتره التهديدات الإرهابية المخيّمة على الوضع، وتؤجّل دخوله حيّز التنفيذ إلى موعد غير معلوم. ارتباك فرضته جملة التغيرات الحاصلة على الأرض، أبرزها خروج الجماعات المسلحة عن دائرة نشاطها التقليدي، المنحصر عادة بالمناطق الشمالية للبلاد، متخطّية بذلك الخط الرمزي الذي تمثّله منطقة "مبوتي"، والضرب بقوّة في العاصمة باماكو الشهر الماضي، ضمن تكتيك جديد يحتمل أكثر من معنى، ويشي بأنّ 2016 سيكون عام التحدّيات بامتياز، بحسب خبراء. ضربات تعتبر قاضية بالنسبة لبلد يرنو إلى الخلاص من توتّر يلازم مناطقه الشمالية، فإذا به يمتدّ زاحفا نحو قلب العاصمة، في رسالة حمّالة لأكثر من معنى. ففي مارس الماضي، وقبل آخر جولات المفاوضات حول اتفاق السلام، أسفر هجوم استهدف مطعما في حيّ "ماغنامبوغو" في قلب مدينة باماكو، عن مقتل 5 أشخاص، بينهم أجانب، وإصابة 9 آخرين. أشهر إثر ذلك، وتحديدا، في نوفمبر الماضي، تعرّض فندق "راديسون بلو" في المدينة نفسها، إلى هجوم خلّف أكثر من 20 قتيل، وترك رسالة واضحة تؤكّد توسّع رقعة نشاط المجموعات المسلّحة إلى ما وراء مجالها التقليدي. هجمات تحمل توقيع "القاعدة في المغرب الإسلامي"، بما أن جماعة "المرابطون" التابعة لها تبنّت هجوم الفندق في العاصمة، كما تبنّته، إثر ذلك، "جبهة تحرير ماسينا"، هذه المجموعة المسلحة الموالية لجماعة "أنصار الدين"، المرتبطة بدورها بتنظيم "القاعدة".. توغّل يؤكّد، في كلّ مرة، الرؤية التي يتبنّاها المتشدّدون في الشمال، والتي تستبطن تهديدات متفاقمة، تعتمد الترهيب والاجتياح والاغتيال. وبحسب قراءات لخبراء تداولتها بعض وسائل الإعلام الدولية، فإنّ عناصر "القاعدة" المتمركزين أساس شمالي مالي، تسعى إلى "الانتشار مجدّدا في الشمال الغربي للبلاد"، المنطقة التي طردوا منها، في 2012، من قبل عملية "سرفال" الفرنسية العسكرية، وهذا "ما يفسّر تصاعد أعمال العنف فيها". فتواتر الهجمات المسلّحة يمكّن تلك المجموعات من المحافظة على توتّر يخدم أهدافها ويشكّل غطاء لتحرّكاتها، ويمنحها فرصة تعزيز صفوفها من خلال تجنيد الشباب في بلد يعتبر من أفقر بلدان المعمورة بدخل فردي سنوي لا يتجاوز ال 672.2 دولار للساكن الواحد. فوضى تغذّي، علاوة على ما ذكر، مناخ عدم الثقة الذي يخيّم على المشهد العام في البلاد، وخصوصا في صورة حدوث تقارب أو تحالف بين ثلاثي الإرهاب والمهرّبين والمجموعات الانفصالية. ارتباك ينضاف إلى هشاشة أسس اتفاق السلام، والذي لم يكن في مستوى تطلّعات المجموعات المسلّحة، والتي اضطرّت للتخلّي، تباعا، عن مطالب الاستقلال، لتكتفي بالحكم الذاتي الجهوي، ضمن قرارات لا يبدو وأنها قادرة على احتواء وتجسيد مساعي السكان من "الأزواد". من جانبها، تواجه باماكو اتهامات من قبل "تنسيقية الحركات الأزوادية"، أبرز المجموعات المسلحة الطوارق الناشطة في الشمال، ب "تقاعسها" أو تردّدها فيما يتعلّق بتطبيق بنود اتفاق السلام الموقع في العاصمة الجزائرية، من قبل مختلف أطراف الصراع في البلاد. هذا الاتفاق الذي ينص على وحدة مالي مع اعطاء قدر من الحكم الفدرالي للشمال، والذي من المفترض أن يضع نقطة النهاية للأزمة التي تشهدها البلاد منذ 2012، ويؤسس لآلية حكم تأخذ بعين الاعتبار انتظارات الأزواد. ومن بين الانتقادات التي طالت السلطة المركزية، سعيها إلى التدخّل، إن لم يكن إلى التأثير، في مجرى تعيين السلطات الانتقالية بمناطق الشمال، رغم أنّ مهمة مماثلة تعود بشكل حصري للسكان المحليين، بحسب نص الاتفاق. لائحة لا تنتهي من العقبات ومن المؤشرات التي تؤكّد جسامة التحدّيات الكامنة في جراب العام القادم، وتشوب سير عمل "لجان متابعة اتفاق السلام"، والتي لا تزال تعرج على وقع مزاج المجموعات المسلّحة، وذلك رغم المحاولات الساعية إلى تجاوز الخلافات، من خلال تشكيل دوريات مشتركة بين مختلف المجموعات المكونة ل "تنسيقية الحركات الأزوادية"، في كلّ من كيدال وتمبكتو. ضبابية تطبق على المشهد في مالي، وتتغذى أيضا من المفارقات الاجتماعية والاقتصادية ومن النزاع العرقي، والذي يتجاوز الإطار السياسي ويتخّذ أبعادا طائفية يشكّل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كلّ حين. لكن، ورغم العقبات، إلا أنّ 2015 لم يخل من شعاع أمل يستشرف خروجا تدريجيا للبلاد من أتون حرب أهلية، وذلك من خلال الدور المحوري الذي لعبته البعثة الأممية في البلاد "مينوسما". فآخر الاشتباكات المسلحة بين المجموعات الانفصالية والجيش النظامي تعود إلى مارس الماضي، في حين أن آخر المواجهات بين تلك المجموعات وبين نظيرتها الموالية للحكومة، تلاشت تدريجيا، لتترك مكانها للمطالبة بتحقيق انتظارات مشتركة، في خطوات تؤكّد أنّ اتفاق الجزائر، ورغم أنه لا يزال في الطور الأول لتطبيقه، يشكل قاعدة "براغماتية" جيدة، تحظى بالقبول من جملة الأطراف المعنية، وهذا ما من شأنه أن يكون نقطة انطلاق للتقدم سواء نحو الأفضل أو الأسوأ.