تعلمت درسي الأول عن عزّة الرجال وكرامتهم من والدتي التي همست في أذني ألا انتحب قرب أخي الصغير المسجى الذي مات غرقاً، خوفاً من أن يضعف والدي ويضطر للبكاء، لأنّ «بكاء الرجال صعب ومرير». وها أنا ذا اليوم أضطر إلى رؤية الرجال العرب من لبنان إلى فلسطين والعراق ينتحبون بمرارة وألم لا يطاقان لفقدان أبنائهم وعوائلهم وفلذات أكبادهم في أحداث مجنونة هنا واحتلال استيطاني عنصري بغيض هناك وبوادر فتنة في مكان ثالث. وللخروج من هذا المنظر المؤذي يعمد الكثيرون إلى تغيير قناة التلفاز التي يشاهدون بدلاً من التركيز على الدور الذي يمكن أن يلعبه كلّ منا في إعادة العزة والشموخ لهؤلاء، ووضع حدّ للمآسي التي تصيب رجال ونساء هذه الأمة. وقد عاد إليّ الشعور ذاته بضرورة الحفاظ على كرامة الرجال وأنا أشاهد رئيس الوزراء الفلسطيني الذي عاد ببعض وسائل القوت لشعب تفرض عليه قوات الاحتلال البغيض التجويع والمهانة بمشاركة من بعض الأشقاء، شاهدته يجلس بانتظار أن تأذن قوات الاحتلال بفتح باب السجن الكبير في غزة، وبعد سجال وقتال واستشهاد وجرح العشرات، يسمح له بدخول أرضه دون أن يحمل معه المبلغ الذي قد يسدّ رمقاً للآلاف ممن حاصرتهم سياسات الاحتلال، وانصياع بعض الأشقاء لهذه السياسات، تجويعاً وقتلاً وتهجيراً من أراضيهم وديارهم. ولكي لا يسيء أحد الظن بأن قوة الاحتلال خارجة عن القانون في أي عمل تقوم به فقد أضفت «المحكمة الإسرائيلية العليا» الشرعية على عمليات القتل والاغتيال التي ترتكبها فرق الموت الإسرائيلية. كما أضفت الشرعية على تهجير أربعين ألف فلسطيني بسبب جدار الفصل العنصري دون أن تفرز قوات الاحتلال هؤلاء إلى مسلمين ومسيحيين، أو سنة وشيعة، أو إلى معتدلين ومتطرفين، أو إلى أتباع فتح وحماس مع أن غلاة الصهاينة يقولون: «لا فلسطينيين ،لا فلسطين، لا مشكلة في الشرق الأوسط»؟ فهل يرى العرب أنفسهم بأنهم يمثلون شعباً واحداً مستهدفاً، أم أن البعض منهم يأخذ بمعسول الكلام عن الصداقات مع العدو التي لا تهدف إلا إلى تمرير مخططاته ضدهم جميعاً دون استثناء، ولكن عبر أشخاص تتفق مصالحهم الآنية والمغريات المقدّمة لهم على حساب حقوق شعبهم.
محطة «إن بي سي» الأمريكية نقلت خبراً ذا مغزى عن الخبير في «الإف بي آي» لمكافحة الإرهاب ديل واتسون قوله إنه «لا يعرف الفرق بين السنة والشيعة، فجميعهم مسلمون، وسياسات «مكافحة الإرهاب» موجهة لجميع المسلمين دون استثناء»، تماماً كما أن الحصار الجوي والبحري والبري الذي فرضه حلفاء إسرائيل على لبنان موجه ضدّ جميع اللبنانيين ويترك آثاره الكارثية على حياة كلّ مواطن لبناني، بينما نسمع الإدّعاء تلو الآخر عن صداقات غربية مع البعض كوسيلة أصبحت مكشوفة لدبّ الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب الواحد ولتمزيق البلد الواحد تمهيداً لتنفيذ المخططات المُعدّة ضدّ هذه الأمة من فلسطين إلى العراق، ومن لبنان والسودان إلى غيرها من بلدان العرب. كيف السبيل إذاً إلى فهم الصورة المتكررة حالياً في العراق وفلسطين ولبنان والسودان؟ وما هو العمل كي يعود الرجال العرب شامخي الرأس، وتزهو الزوجات والأمهات بشموخ رجالهن، وترتاح أعين المشاهدين لاستعادة العربيّ حريته وكرامته وعزته على أرض أجداده؟
لقد حرّكت المآسي اليومية لشعب العراق وفلسطين ولبنان ضمائر حيّة مهمة في العالم تشكّل فرصة لمن يريد أن يضيء شمعة بدلاً من أن يُمضي الوقت في لعن الظلام. وقد شكّل تقرير«بيكر هاملتون» حافزاً للكثيرين لمراجعة السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وتلا ذلك كتاب الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر«فلسطين: السلام لا التمييز العنصري» والذي صدر في ديسمبر 2006، وكتاب القاضية الأمريكية اليزابيت دولافيفا «الولاياتالمتحدة في مواجهة جورج بوش وحاشيته» والذي ظهر أيضاً في ديسمبر 2006، بالإضافة إلى خطاب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في مكتبة الرئيس ترومان أيضاً في ديسمبر 2006.
وبغضّ النظر عن الآراء التي تركّز على أن الرؤساء السابقين فقط، وليس الرؤساء، يلامسون حقيقة الوضع في الشرق الأوسط، فإنّ الفرصة متاحة لنقل واقع المنطقة المؤلم إلى ضمير الأسرة الدولية. ولا يعيب الأعمال المذكورة أعلاه في شيء أنها تنطلق من رؤية أمريكية بحتة، وليس إنصافاً للعرب، إذ على العرب أن يحبّوا أنفسهم وبعضهم أولاً ليتناغموا مع من يحاول رفع الظلم عنهم لأسباب وطنية أو أخلاقية عامة. فالقاضية دولافيفا تقدم سيناريو محاكمة الرئيس بوش وحاشيته بتهمة التآمر للاحتيال على الولاياتالمتحدة وشعبها باستعمال الخداع والحيلة والبيانات المزورة التي تشمل الكذب ونصف الحقائق لإقناع الكونجرس بشن حرب «وقائيّة» ضدّ العراق.
أما الرئيس كارتر فقد تحدث عن سياسات عنصرية في إسرائيل أدهى من سياسات جنوب إفريقيا العنصرية، وعزا السبب «إلى الجهود الفظيعة التي تبذلها لجنة العمل السياسية الأمريكية الإسرائيلية المعروفة باسم (ايباك) وغياب أي أصوات مهمة مضادة»، وهنا بيت القصيد أي غياب الأصوات العربية عن الساحة الدولية وغياب آليات العمل والتمويل للجهود التي يمكن أن توضح الصورة العربية الحقّة. وقد أضاف الرئيس كارتر«أن أي عضو كونجرس يفكّر باتخاذ موقف متوازن بين إسرائيل والفلسطينيين فإن ذلك سيكون بمثابة انتحار سياسي وحتى إذا كان الحديث فقط الطلب إلى إسرائيل الالتزام بالقانون الدولي أو الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان للفلسطينيين». وقد أشار كارتر، في مقال له نشر في الجارديان 12 ديسمبر 2006، بأنّ مبيعات الكتاب ممتازة، وللأسف فإنّ الأخبار في الإعلام العربي قد عكست بمجملها آراء الجرائد الغربية التي انتقدته والتي لم تعد تمثل ما يشعر به الأمريكيون، ويقول كارتر «بعيداً عن هذه الجرائد وفي العالم الحقيقي فإن الاستجابة لما كتب كانت ايجابية بشكل عظيم». وقال كارتر أن أمله من هذا الكتاب هو أن يساعد في إعادة إطلاق محادثات السلام التي يمكن أن تقود إلى سلام بين إسرائيل وجيرانها، وأمله الثاني هو تشجيع اليهود والأمريكيين الذين يشاطرونه هذا الهدف بأن يعبّروا عن آرائهم بشكل علني، وقال «بأنني جاهز للمساعدة في هذا الجهد». والجزء المهم المفقود من المعادلة هو الصوت العربي الواحد القادر على التناغم مع هذه الأصوات ونقل مسألة تحقيق العدالة للفلسطينيين والعرب من إطار إقليمي إلى إطار دولي.
وفي إطار أوسع وأشمل ولكنه يصبّ في الإطار نفسه ويخدم الهدف نفسه، تحدث كوفي أنان في خطاب الوداع عن ثوابت سياسية وأخلاقية تخدم المدافعين عن حقوق العرب لو تمّ توظيفها بالشكل اللائق. فقد خلُص من تجربته إلى خمسة دروس مهمة: الأول هو أنه في عالم اليوم أمن كلّ واحد فينا مرتبط بأمن الآخر. والدرس الثاني هو أننا لسنا مسؤولين عن أمن بعضنا فقط، ولكن عن خير بعضنا أيضاً. والدرس الثالث هو أن الأمن والتنمية يعتمدان في النهاية على احترام حقوق الإنسان واحترام القانون. والدرس الرابع هو أن الحكومات يجب أن تكون مسؤولة عن أعمالها على الساحة الدولية وعلى المستوى الداخلي أيضاً. والدرس الخامس هو أنه لا يمكن القيام بكل هذه الأمور إلا من خلال العمل سويةً في نظام دولي غير أحادي والاستفادة القصوى من منظمة الأممالمتحدة.
وفي هذا الخطاب منهج ضدّ العنصرية والطائفية وسياسات العزل والمقاطعة والحصار والحرب، ودعوة إلى قيادة حكيمة لما يجري في العالم، تخلق الوفاق لا العداء بين الشرق والغرب، وبين المسلمين أنفسهم، وبين حضارة المسلمين والحضارة الغربية. كلّ هذا الحراك المفهوماتي والفكري والسياسي، والذي يمكن أن يصبّ بشكل مهم وجاد في خدمة الحق العربي، يبقى معلّقاً هناك بسبب انشغال العرب بنظريات التطرف والاعتدال، أو السنّة والشيعة، أو فتح وحماس، وغير ذلك من تصنيفات مما اختلقها لهم أعداؤهم، وفي وجه هذا الحراك تبدو تعليقات رايس على خطاب كوفي أنان وبيان بوش حول سورية محاولات عبثية لإعادة ضوء الحقيقة الذي انبلج باقتدار إلى النفق المظلم الذي يريدون سجنه فيه. أما ما يحدث غداً وبعد غد فلا بدّ أنه يعتمد على مدى ارتقاء النخب السياسية والثقافية العربية إلى مستوى احتضان حقوقها، والاعتزاز بهويتها، والتآزر مع هذه القوى الدولية الصاعدة لنقل قضية الصراع العربي الإسرائيلي ونتائجها في العراق وفلسطين ولبنان إلى الضمير العالمي الحيّ، بهدف تحقيق العدالة والكرامة الإنسانية لرجال العرب ونسائهم وأطفالهم. وكما اتجه سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم برسالته إلى الإنسانية، على العرب العقلاء اليوم التوجه إلى الإنسانية لأنّ ما يجري على أرضهم أصبح يلامس كرامة الإنسان في كلّ مكان والعدالة بين البشر، وأصبح ذلك يحظى باهتمام العالم، وهذه فرصة يمكن لنا استثمارها لما فيه خير العرب والمنطقة والإنسانية جمعاء. عن الشرق