تواجه حكومة الحبيب الصيد الائتلافية بين علمانيين وإسلاميين موجة من الإضرابات والاحتجاجات نتيجة تردي الأوضاع المعيشية وتدهور المقدرة الشرائية لأغلب فئات المجتمع في وقت يتوصل فيه الاتحاد العام التونسي للشغل إلى اتفاق مع الحكومة بشأن الزيادة في أجور العمال والموظفين. ولا يخفي الخبراء أنه بعد أكثر من أربع سنوات على انتفاضة 14يناير 2011 والإطاحة بنظام الرئيس بن علي التي قامت ضد تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم يجن التونسيون من ثورتهم سوى المزيد من التفقير الحرمان والاحتقان الاجتماعيين وسط تخوفات من انزلاق البلاد إلى حالة من الغضب الشعبي قد يجتاح مختلف الجهات وخاصة من المحرومة. خلال أكثر من أربع سنوات يعيش التونسيون وضعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا ازداد تأزما وتعقدا بعد أن تراجع الإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية وانتشرت مظاهر البؤس في غالبية جهاد البلاد بما في ذلك تونس العاصمة والتهبت الأسعار وتدهورت القدرة الشرائية للمواطن الأمر الذي بات ينذر بانفجار الوضع في أي لحظة. وبحسب بيانات منظمة الدفاع عن المستهلك فقد تدهورت المقدرة الشرائية للتونسيين خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 40 في المئة جراء ارتفاع مشط في أسعار المواد الاستهلاكية وخاصة الغذائية بنسبة 100 بالمئة وبلغت في بعض المواد 200 في المئة جراء انهيار منظومة الرقابة الإدارية و"سطوة" شبكات متخصصة في الاحتكار والتهريب والمضاربة وتحكمها في مسالك التوزيع التي كانت تخضع لمنظومة من الإجراءات التعديلية والعقابية. وأمهل التونسيون حكومة الصيد ثلاثة أشهر حيث خفتت حدة الاحتجاجات الاجتماعية التي تطالب بتشغيل العاطلين وتوفير مقومات الحياة الكريمة التي تليق بالبشر في المحافظات الداخلية والغربية المحرومة كما في أحزمة الأحياء الشعبية، غير أن التونسيين يصفون هذا "الخفوت" ب"الهدوء الذي يسبق العاصفة" في مؤشر على أنهم "مستعدون لقيادة احتجاجات" تفتح أمامهم أملا يبدو أنه تبخر في ظل غياب اية مبادرات جدية لمعالجة المشاكل الحقيقية. ويظهر الحديث إلى الفئات الأشد احتكاكا بالناس مثل التجار وسائقي سيارات الأجرة أن الجميع يرددون جملة واحدة كما لو أنهم اتفقوا عليها "وضع البلاد غير مطمئن" في تعبير يؤشر على تخوف من المستقبل ممزوج بالحذر والخوف. ويرى خبراء التنمية البشرية إن المطروح على تونس اليوم "اعتماد نموذج تنموي جديد" يخرج البلاد من أزمتها وينأى بها عن الاقتصاد المتوحش ليعتمد على "إستراتيجية تنموية عملية وواضحة" قادرة على تنشيط مؤسسات الإنتاج وفي مقدمتها المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة واستيعاب أكثر من مليون عاطل عن العمل. ويشدد الخبراء على أن "الاحتقان الاجتماعي الذي اشتد خلال الأسابيع الأخيرة نتيجة سياسية حكومية غير واضحة سيدفع لا فقط بالفئات التي قادت انتفاضة يناير 2011 للانتفاض من جديد وإنما ستدفع أيضا بالفئات الوسطى التي صبرت كثيرا على فشل الحكام الجدد في معالجة المشاغل الحياتية للتونسيين. وتؤشر الطريقة التي تدير بها الحكومة الشأن العام على أنها لم تنجح في وقف النزيف الاقتصادي إذ توقفت أكثر من 700 مؤسسة اقتصادية عن الإنتاج ولفظت أكثر من 3000 شخص إلى عالم البطالة، كما أن "سياسة المعونات الاجتماعية" لم تؤد سوى إلى ظهور فئات متسولة. وإزاء حالة الغرق في أزمة قد تهدد الاستقرار النسبي للمجتمع أطلق الخبراء صيحة فزع من أجل إنقاذ البلاد. ودعا الخبير الاقتصادي بوجمعة الرميلي إلى "اعتماد نموذج اقتصادي تضامني وعادل تتقاسم فيه مختلف فئات المجتمع عائدات الخيرات بنفس الحظوظ ويولي الأولوية للجهات المحرومة والفئات الهشة ويقطع مع الاستبداد الاقتصادي والتهميش الاجتماعي". ويرى الرميلي أن " الثورة مسار طويل يستوجب استراتيجيات تنموية وسياسية عملية تستجيب لتطلعات التونسيين وتحقق مطالبهم في الشغل وفي التنمية وفي الحرية، وهذه الإستراتيجيات لا تعبر بالضرورة عن أجندات سياسيوية للحزب الحاكم". ويطالب الخبراء حكومة الصيد بعدم الانزلاق في ما انزلقت فيه حكومة النهضة التي أكتفت ب"ترقيع" السياسة التنموية التي انتهجتها حكومة الرئيس السابق بن علي وفشلت في تقديم "بديل تنموي وسياسي يرقى إلى مستوى أهداف ثورة بلد يقود الربيع العربي. ويشدد الخبراء في التنمية البشرية على ان"عمليات الترقيع عاجزة عن تقديم الحلول الجذرية" في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 25 بالمائة وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 22 بالمئة ويطالبون الحكومة ب"نموج تنموي ناجع يجعل مشاغل التونسيين الاجتماعية في سلم أولوياته". وفي حال لم تبادر الحكومة بوضع إستراتيجية عملية وواضحة تكفل الضمانات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لن تتمكن من تخفيض نسبة التضخم التي قفزت من 3 إلى 6 بالمئة حسب بيانات البنك المركزي الشيء الذي دفع بها إلى الترفيع في أسعار المواد الأساسية والمحروقات ما زاد في تعميق أزمة تدهور القدرة الشرائية وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي. ويقول الخبير في السياسات التنموية وأستاذ التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية وحيد كمون "خلال أربع سنوات من الحكم يشعر التونسيون، الفقراء والفئات الوسطى وحتى الطبقة الميسورة بأنهم يتقاسمون نفس التخوفات من إمكانية تحسن الوضع العام للبلاد" مضيفا "إنه لأمر لافت أن يشعر الجميع بأن تونس تسير نحو المجهول في ظل الركود الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والانفلات الأمني". ويرى المحلل السياسي كمال بن يونس أن أهداف الحكومة على تواضعها "قد لا تتحقق بسهولة بسبب مناخ اقتصادي واجتماعي وطني وإقليمي ودولي يتسم بالتأزم والكساد خاصة في أوروبا". وتستحوذ السوق الأوروبية، التي تبدو غير مجدية في ظل الأزمة التي تمر بها، على أكثر من 70 في المائة من مبادلات تونس الخارجية. من جهته يقول أستاذ العلوم الاقتصادية في الجامعة التونسية عبد المجيد البدوي إن "حبل الثقة بين مختلف فئات المجتمع والحكومة تقطع، فالفقراء ازدادوا فقرا، وعدد العاطلين ناهز المليون عاطل، والطبقة الوسطى تم تفقيرها وتدهورت قدرتها الشرائية، والطبقة الميسورة باتت تخشى على وضعها نتيجة الانهيار الكارثي لمؤسسات الإنتاج والتجارة". وخلال سنوات الثورة اضطر أكثر من 3000 رجل أعمال للهجرة إلى المغرب بحثا عن مناخ استثماري ملائم. ويشدد البدوي على "إن الحكومة تعتمد على نوايا الاستثمار الخارجي وهو رهان غير مضمون كما تعتمد على دعم بلدان الإتحاد الأوروبي التي تخنقها أزمة حادة" مشددا على ضرورة "وضع خطط تنموية اجتماعية تقوم على أساس تشخيص دقيق للواقع التونسي لا على أساس سياسة الاقتراض". ويطالب الإتحاد العام التونسي للشغل ب"وضع خطة تنموية تعتمد على الاقتصاد التضامني وتنأى بالبلاد عن نمط الاقتصاد المتوحش الذي لا يزيد الفقراء إلا فقرا ولا يزيد الأغنياء إلا المزيد من الثراء الفاحش". ويذهب الخبراء إلى أن "المناخ المشحون داخليا وخارجيا كانت له انعكاسات سلبية على الاستثمار الداخلي والخارجي، ويخشى بعض الخبراء من تمديد مرحلة الانتظار والحذر وتهريب أموال المستثمرين من البلاد إذا لم تصدر عن الحكومة رسائل تطمينات واضحة لأصحاب رؤوس الأموال". وتواجه الحكومة تحديات اقتصادية عملية منها عودة 500 شركة التي تشكو نوعا من التجميد إلى سالف نشاطها واستئناف حوالي 3 آلاف من الشركات المرتبطة بها اقتصاديا عملها. ويحاول محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري التخفيف من أزمة الاقتصاد مشددا على أن "الوضع صعب لكنه ليس بالكارثي". وكانت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية أظهرت أن "رقعة الفقر توسعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30 بالمئة بعد أن تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وفقدت موقعها الاجتماعي لتتحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية في ظل نسق تصاعدي مشط لارتفاع الأسعار مقابل سياسة تأجير شبه جامدة مما أدى إلى بروز "ظاهرة الفقراء الجدد" بعد أن تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد". وقالت الدراسة التي شملت 5300 عينة موزعة على كامل أنحاء البلاد أن "الفقراء الجدد" يمثلون نسبة 30 بالمائة من العدد الجملي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 10 ملايين هم عدد سكان تونس. وعرفت الدراسة الفقراء الجدد ب"صغار الموظفين بالإدارة والمدرسين بالمدارس الابتدائية والإعدادية والعمال والأجراء الدين لا تتجاوز مرتباتهم وأجورهم الشهرية 700 دينار أي حوالي 500 دولار". وفي ظل تراجع أداء مؤسسات الدولة ودورها في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية سواء من خلال نظام تعديل السوق أو سواء بحماية الفئات الهشة من شراسة الاقتصاد المتوحش عبر سياسات الترفيع في الأجور بدا "الفقراء الجدد" ضحية لمنظومة معقدة من شبكات الاحتكار والمضاربة تقودها عصابات من الأثرياء الجدد. ويقول المراقبون إن عجز الحكومة على تنشيط الاقتصاد الذي لا تتعدى نسبة نموه 2 بالمائة في أحسن الحالات وعدم انتهاجها سياسات اجتماعية تتعاطى بنجاعة مع المشكلات الحقيقية للتونسيين كل ذلك يهدد لا فقط بعودة الاحتجاجات بل ب"انفجار الوضع" الاجتماعي.