من يتابع التصريحات والتحليلات الإسرائيلية يدرك إلى أي مدى ترتبك خيارات الدولة العبرية في التعاطي مع التحديات التي تحيط بها من كل جانب، فيما تتيح تلك التصريحات والتحليلات المجال واسعاً أمام البعض لاصطياد الأدلة من أجل تعزيز مواقف ورؤى تدعم خيارات سياسية تم تبنيها لاعتبارات أخرى ذات صلة بمعادلة المصالح والمخاوف أكثر من أي شيء آخر. ثمة جبهة للمقاومة والممانعة في المنطقة، وهي جبهة لا تشمل إيران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد وحسب، بل تتمدد أيضاً لتشمل قاعدة عريضة من القوى والحركات الإسلامية والقومية والوطنية الواسعة الانتشار من المحيط إلى الخليج ومن طنجة إلى جاكرتا، فضلاً عن شارع غاضب لايتمدد في طول العالم العربي والإسلامي فحسب، بل يشمل أيضاً قطاع الجاليات العربية والإسلامية في الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية.
تزداد الأزمة بالنسبة للكيان الصهيوني في ظل غياب القادة التاريخيين الذين يستطيعون أخذ القرار المناسب في التوقيت المناسب وحشد يهود الداخل والخارج من خلفه، وهي معادلة تنسحب على القيادة العسكرية والسياسية في آن، مما يعني أنه لم يعد بالإمكان الحديث لا عن صلابة المؤسسة العسكرية والأمنية وتماسكها، ولا حتى المؤسسة السياسية.
لمزيد من كشف حجم الارتباك الذي تعيشه الدولة العبرية في سياق التصدي لجبهة المقاومة والممانعة في المنطقة نأخذ هذه الاقتراحات الواردة من لدن العديد من السياسيين اليهود والإسرائيليين. فهذا أفرايم هاليفي، رئيس الموساد ما بين عامي 89 و2002، ومستشار الأمن القومي لرئيس الحكومة الحالية أولمرت، يكتب مقالاً في يديعوت أحرونوت (2/8) بعنوان "تناول الطعام مع الشيطان"، وفيه لا يرى حلاً للمعركة مع حزب الله سوى الجلوس مع إيران والتفاوض معها بشأن الملفات العالقة في المنطقة.
نعلم أن هناك من يروج لهذه النظرية تحت لافتة التصدي للمشروع الإيراني "الصفوي" أو الشيعي في المنطقة، معتبراً أن الحل هو التحالف مع واشنطن، أي تقديم بديل أفضل لها من التحالف مع إيران، في استعادة بائسة لنظرية السادات في إقناع الولاياتالمتحدة بأن بوسعه أن يكون حليفاً أفضل لها في المنطقة من الدولة العبرية.
لكن هذا الطرح ليس وحيداً في الأروقة الإسرائيلية، ففي مقال له نشر في صحيفة يديعوت أحرونوت أيضاً (10/8)، وكان بعنوان "يوجد من نتحدث إليه"، ذهب رون فونداك، مدير مركز بيريس للسلام، وأحد مهندسي اتفاق أوسلو، إلى ضرورة التعامل مع سوريا من أجل إبعادها عن إيران، على اعتبار أنه لايوجد بينهما شيء موحد تقريباً، وأن "سوريا اليوم مرساة ذات قدرة كامنة على جلب الاستقرار والسلام إلى المنطقة".
مقابل المزايا الكثيرة للسلام مع سوريا، وأهمها إبعادها عن إيران التي تطالب بشطب الدولة العبرية، إلى جانب إضعاف حزب الله وحماس، ليس ثمة، بحسب فونداك، سوى ثمن واحد هو إعادة هضبة الجولان، مع ضرورة ربط ذلك بسلام مع الفلسطينيين يفضي إلى تهميش حماس، وإلى تطبيع مع الدول العربية، فيما "يضعف التهديد العسكري الإسلامي".
قريباً من هذا الاقتراح جاء على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيريتس، وهذه المرة بعد نهاية الحرب على لبنان، حيث ذكر أن كل حرب تخلق فرصاً جديدة للسلام، وأن ما جرى سيشكل فرصة للسلام مع سوريا.
دانيال ليفي كان أيضاً عضو طاقم مفاوضات أوسلو، وهو أحد المعدين الأساسيين لمبادرة جنيف، وقد كتب في صحيفة هآرتس مقالاً بعنوان "كابوس المحافظين الجدد" يطالب فيه بفك ارتباط الدولة العبرية باستراتيجية المحافظين الجدد التي أسماها "الدمار الخلاق"، ومن ثم "إعادة النظر في السياسة المتبعة مع حماس وسوريا وتشجيع جهود أبو مازن من أجل التوصل إلى تفاهم فلسطيني وطني كقاعدة للحكم الراسخ والهدوء الأمني والمفاوضات السلمية المستقبلية". أما شلومو بن عامي، وزير خارجية الدولة العبرية الأسبق فكتب في صحيفة لوموند الفرنسية (12/8) مقالاً بعنوان "حرب على حزب الله وحرب على حماس"، ولا حاجة للمزيد من التوضيح بشأن الاقتراح الذي يفضحه العنوان.
جاكي كوخي، وهو واحد من أشهر المحللين الإسرائيليين طالب أيضاً بالتفاهم مع سوريا بوصفها أحد مفاتيح الهدوء في المنطقة حتى لو استدعى ذلك دفع كامل الثمن المطلوب، وبالطبع فيما يتعلق بالجولان.
حافز هذه المقترحات وسواها هو حجم المأزق الذي تعيشه الدولة، ولا شك أن الهزيمة الجديدة أمام حزب الله ستضاعف الجدل الدائر حول أفضل السبل للخروج منه، لاسيما في ظل المعطى الجديد الذي ازداد وضوحاً ممثلاً في ما يسميه الإسرائيليون "مظاهر أسلمة الصراع". وقد ذهبت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في لقاء لها مع سفراء الدول الأجنبية مؤخراً إلى أن وجود الدولة العبرية قد أصبح في خطر بسبب مظاهر أسلمة الصراع. فيما وجه تيدي كوليك الرئيس الأسبق لبلدية القدس من على فراش المرض نداءً عبر الإذاعة الإسرائيلية طالب فيه الحكومة ببذل كل جهد ممكن من أجل وقف أسلمة الصراع حتى لو كان الثمن تقديم تنازلات للدول العربية المعتدلة.
هكذا يتسع نطاق الشعور العام بحجم المأزق الذي تعيشه الدولة العبرية وسط منطقة تغلي بالرفض من حولها، ووسط فشل متواصل لمخططات المحافظين الجديدة للسيطرة عليها، وما من شك أن الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان قد شكل حافزاً على إعادة التفكير فيما يجري، مع العلم أن مشاريع الحرب المذكورة لم تنطلق إلا من أجل عيون الدولة العبرية، ولولا الأجندة الإسرائيلية للسياسة الخارجية الأمريكية لما كانت ورطة أفغانستان ولا العراق.
ولكن هل سيفضي ذلك إلى منهجية جديدة في التعاطي مع شؤون المنطقة؟
من الصعب نفي هذا الاحتمال على نحو حاسم، على رغم القناعة بأن الدوائر الإسرائيلية الأمنية والسياسية مازالت مصرة على مطالبها السياسية والجغرافية من عملية التسوية، والتي يرفضها المعنيون في العالم العربي، ولكن تغيير تلك المطالب تحت وطأة الواقع ربما شكل بداية النهاية للمشروع الصهيوني، أما إذا لم تفعل فإن مسلسل الهزائم والتراجعات قد بدأ ولا مجال لوقفه، مما يعني أن النتيجة واحدة في الحالتين.