منذ التسريب الأول الذي خرج من مكتب وزير الدفاع سابقا، والرئاسة حاليا، وقبل انتشار التسريبات لاحقًا وتبثها أكثر من فضائية معارضة له، رجح مراقبون -ضمن تفسيرات عدة- أن يكون وراء هذه التسريبات صراعات بين الأجهزة السيادية والأمنية المختلفة في مصر، بين معارضين لسياسات السيسي وراغبين في التخلص منه، وبين من يبحثون عن مصالحهم ونفوذهم الخاص، ومن يقدمون فروض الطاعة له للحصول على جزء من كعكة الحكم. هذه الأجهزة المتصارعة أو الأركان الأساسيّة لدولة السيسي، هي: المجلس العسكري الحالي، وقيادات الفروع الرئيسة للقوات المسلحة، والتي اختارها السيسي بعناية عقب توليه مقاليد السلطة، فضلًا عن قيادات المخابرات العسكرية والعامة، والتي اختارها من بين معاونيه السابقين. هذه الأجهزة تمتلك أذرعًا قضائية وإعلاميّة، تساعد في تثبيت أركان حكم السيسي أو تفجر أمامه العقبات، مدفوعة بمصالح مرتبطة بالنظام الحالي أو بأنصار النظام المخلوع (مبارك) الذين لا يزالون في السلطة ولعبوا دورًا في انقلاب السيسي على الرئيس الشرعى محمد مرسي ويطالبون بالثمن، ويراهن بعضهم على بقائه واستقرار الأوضاع الملتهبة، للحصول على مكاسب، بينما يراهن آخرون على التخلص منه أو تهديده وابتزازه كي يدخلهم لعبة تقسيم النفوذ ويبقي عليهم ولا يضحي بهم، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، التي يراهن رجال أعمال دولتي مبارك والسيسي، على الفوز بأكبر حصة من المقاعد فيها. هيكل يؤكد الصراعات وقد اعترف الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، منذ أسبوعين في لقاء تلفزيوني بأن هناك صراعًا بين “أجهزة الدولة” على السيسي وحوله. وقال هيكل إنه حضر نحو 7 انتقالات للسلطة في حياته، بدءًا من انتقالها من الملك فاروق محمد نجيب، مرورًا بعبد الناصر والسادات ومبارك ومرسي والسيسي، لافتًا إلى أنه في مرحلة الانتقالات هذه يوجد صراع على الرئيس وتقرب العديد من القوى منه للتأثير في قراره سواء كانت من خارج النظام أو من داخله. وأضاف: “كل جهاز يحاول سواء بالترغيب أو التخويف أو الضغط أو التأثير، كل جهاز يحاول أن يحتل مساحة كبيرة من صنع القرار الرئاسي، وهذا طبيعي في كل مكان في الدنيا وكل رئاسة وكل حكومة، هذا الصراع موجود على مركز القوة وهناك صراع حوله من كل قوى تريد أن تؤكد أن لها دورًا في المستقبل، سواء الأحزاب وجماعات الضغط وجماعات مصالح”. لهذا، توقعت مصادر سياسية مختلفة أن يقوم السيسي خلال الفترة المقبل وعقب تزايد التسريبات وتهديدها لنظامه بعدما كشفت أساليب لا ترقى لما يُعروف عن انضباط المؤسسة العسكرية وأركانها، مثل التحكم في قرارات القضاء، وتلفيق تهم ومبررات قانونية لاعتقال الرئيس السابق مرسي، وأن تسبق هذه التغييرات (الإطاحات) الانتخابات البرلمانية المقبلة في مارس القادم، والتي يتردد أنه السيسي يؤجلها لحين حسم هذا الصراع الذي يهدد بجعله بلا ظهير سياسي في البرلمان المقبل، بسبب تصارع التحالفات السياسية المختلفة وعدم توحدها في قائمة انتخابية واحدة. الرئاسة تؤكد الصراعات وقد كشفت صحيفة مصرية مقربة من المؤسسة العسكرية، عما قالت إنه “صراعات وخلافات داخل الأجهزة المصرية، تمثل صداعًا في رأس السيسي“، وإن هذه الصراعات ستدفعه لتغيير معاونيه قريبًا لضبط إيقاع العمل، والتخلص من شخصيات كانت تعارض أصلًا وصوله للسلطة ولا علاقة لها بالإخوان. وربطت الصحيفة (الشروق) هذه التغييرات ب”كارثة التسريبات المزعومة”، التي وصفتها بأنها “صداع في رأس السيسي”، حسب تعبيرها، فيما ربط سياسيون مصريون بين زيارة السيسي (الخميس) لمقر جهاز المخابرات وبين الرغبة في التعرف علي تقديرات الجهاز بشأن التحديات المختلفة، وسد هذه الثغرة من التسريبات، قبل إجراء هذه التغييرات. بل إن صحيفة “الشروق” اليومية نقلت في عددها الصادر الجمعة عن مصدر وصفته “رئاسي مطلع” قوله: “إن ما أشار إليه السيسي خلال وجوده فى الصين، وما ذكره في أثناء لقائه مسؤولي الأجهزة الرقابية قبل أسابيع، عن غياب التنسيق بين أجهزة الأمن والمعلومات في الدولة؛ لم يكن إلا قمة جبل الجليد”. وأضاف المصدر وفق الصحيفة، “أنه اتضح للسيسي أن ما كان يظنه غيابًا للتنسيق بين الأجهزة الأمنية والمعلوماتية والرقابية، قد وصل إلى تضارب في الأداء ليس فقط بين الأجهزة، بل داخل الجهاز الواحد على خلفية تعارض المصالح، والاستقطابات“. وأضافت -مصدر الصحيفة- أن السيسي عندما كان يسعى للترشح حرص على أن تتم تنقية الأجهزة الرئيسة من عناصر، كان يرى أنها ستكون مناوئة لعمل متناسق وناجح تحت رئاسته، ولم يتعلق الأمر فقط بما وُصف إعلاميًا بأنه وجود لعناصر قريبة من الإخوان، بل الأهم بعناصر لها صلات بشخصيات سعت لإجهاض ترشح الرئيس، وتقليل فرص نجاحه. ويضيف أن “«كارثة التسريبات المزعومة» هي نتاج ذلك التصارع الذي يأتي «للأسف الشديد» بين رجال «كان من المتوقع أن يلتفوا لدعم الرئيس عوضًا عن الصراع المبكر للحصول على مصالح أو الدخول في عمليات إقصاء متبادل بهدف الاستحواذ القسرى على ثقة السيسى»”. وأكدت “الشروق” أن الرواية المتناسقة بحسب العديد من المصادر، هي أن السيسي غير مرتاح لأداء عدد غير قليل من المسؤولين، وأنه بصدد النظر في خياراته لتغيير هؤلاء المعاونين دون الكثير من الإفصاح أو التشاور، سوى ما يطلبه من متابعات حول أداء بعض الشخصيات، أو ما لفت له النظر خلال اجتماعات داخلية عقدها مؤخرًا بين رؤساء عدد من الأجهزة. وقالت: “إن من أولويات السيسي في المرحلة الحالية، ضبط عمل الأجهزة الأمنية والمعلوماتية والرقابية،ووضع من لهم ولاء له وإنهاء حالات الاستقطاب داخلها، التي يرى أن شخصيات سابقة في الدولة تعمل على تعزيزها”. وأزعجت هذه التسريبات الأخيرة مكتب السيسي، لأنها تخص احتجاز الرئيس الشرعي محمد مرسي بعد 3 يوليو 2013، وحادث مقتل سجناء عربة الترحيلات المعروف إعلاميًا بسيارة ترحيلات أبو زعبل، وطلب الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل من مدير مكتب السيسي، التدخل لرفع اسم ابنه “حسن” رجل الأعمال المتهم في قضايا فساد، من قوائم المنع من السفر وترقب الوصول. صراع دولتي العسكر أم معسكر مبارك والسيسي؟ وتتضارب التفسيرات لهذا الصراع بين الأجهزة: هل هو صراع بين دولتي العسكر (المتقاعدين وأنصارهم في الخدمة والحاليين)، أم صراع بين الأنصار في معسكري مبارك والسيسي؟ أم إنه صراع ثنائي معقد يجمع بين الاثنين. فقد اعتبر فريق من المراقبين في مصر، أن التسريب الأول، عن حديث قيادات في المجلس العسكري عن تآمرهم على الرئيس السابق محمد مرسي، وتلفيقهم الأدلة لسجنه، يؤكّد أنّ صراع الأجهزة في مصر، بين دولتي الرئيس المخلوع حسني مبارك، والحالي عبد الفتاح السيسي. واعتبر فريق آخر، معارضة السلطة الحالية لظهور حزب رسمي يمثل الفريق سامي عنان، والإيعاز للجنة الأحزاب برفض إشهاره، نوعًا من الصراع بين معسكري العسكر المتقاعدين والحاليين، وأن التسريبات تتم من قبل موالين للفريق عنان، لا يرغبون في رؤية السيسي رئيسًا، ويرغبون في تحجيمه خاصة أنه كان يميل للجمع بين منصبي الرئاسة ووزير الدفاع، وهو ما تصدى له عسكريون، بحسب رواية لمصادر عسكرية لم تذكر اسمها. ولا يبدو سامي عنان، رجل نظام مبارك البارز ورئيس أركان القوات المسلحة الأسبق، بعيدًا عن الصراع الدائر، فالرجل الذي سعى جاهدًا إلى الترشّح للانتخابات الرئاسيّة وقيل إنه تم الضغط عليه لصالح السيسي، واجه هجومًا شرسًا من القنوات الفضائيّة الموالية لانقلاب السيسي، وتهديدات ب”فتح ملفاته القديمة”، ما جعله يتراجع ويؤيد ترشيح السيسي. وقد أظهرت شواهد عدّة، العداء المكتوم بين السيسي وعنان، أبرزها عدم دعوة الأخير إلى أي من احتفالات القوات المسلحة، منذ تولي السيسي حقيبة وزارة الدفاع، ودعوته لوزير الدفاع الأسبق حسين طنطاوي فقط، بالإضافة إلى مسارعة السيسي للتأكيد على أنّ القوات المسلحة لا تدعم أيّ مرشح للرئاسة، صباح إعلان عنان عزمه خوض سباق الرئاسة، وهجوم بعض الصفحات الإلكترونية الداعمة لعنان، على السيسي. أيضًا، يرى مؤيدو سيناريو أن هذا الصراع بين معسكري مبارك والسيسي، أن التسريبات الأخيرة استهدفت ضرب شرعيّة السيسي ونظامه، ومن ثم جاءت لصالح رموز دولة مبارك الذين عادوا بقوة للترشح في انتخابات برلمان 2015، وتصاعد نشاطهم عقب براءة مبارك، خصوصًا رجال الأعمال من الحزب الوطني المنحل السابق، المسيطرين على وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة. ولم يكن التقرير الموسّع الذي نشرته، قبل أيام، إحدى الصحف المعروفة بعلاقاتها مع الأجهزة الاستخباراتية، حول إمكانيّة ترشّح نجل الرئيس المخلوع، جمال مبارك، في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة في العام 2018، بمنأى عن هذا الصراع، ليعود الحديث مرة أخرى عن سيناريو “التوريث” لجمال مبارك، برغم أنه مازال مسجونًا ولا يعرف هل تتم تبرئته بواسطة أذرع هذا التيار المباركي في القضاء أم ماذا؟ ويرى خبراء سياسيون أن هذا صراع طبيعي بين المعسكرين وكان متوقعًا؛ فرجال دولة “مبارك” العميقة في القضاء والمؤسسات الأمنية والسيادية والإعلام، وأركان نظامه، اتحدوا في البداية مع “السيسي” ورجاله، لهدف مشترك واضح، هو القضاء على ثورة يناير، التي تمثل التهديد الأكبر لكلا النظامين، الخارجين من عباءة واحدة، وهي عباءة حكم العسكر، عبر استخدام فزاعة “حكم الإخوان”. وأنه من الطبيعي بعد تحقق هدفهم أن يختلفوا لاحقًا حول تقسيم الكعكة، ويدخلا في صراع لم يعد يخفى على أحد، وما “التسريبات” سوى قمة جبل الجليد له، وسواء كان الهدف منها هو “تطويع” و”تدجين” السيسي لصالحهم، أو “إبعاده” وتهديده باستمرار لضمان مصالحهم. حقيقة الصراع كما تراه إسرائيل! والغريب أن إسرائيل ووسائل إعلامها شاركت المصريين والعالم هذا الاهتمام بالصراع الدائر حاليًا، ومالت لنفس التفسير الذي يقوله نشطاء ثورة 25 يناير والإخوان، وهو إنه صراع بين “دولتي 30 يوليو و25 يناير”. ففي منتصف ديسمبر الماضي، نشرت عدة صحف ومراكز أبحاث إسرائيلية تقارير متشابهة تدور حول “متابعة إسرائيل لتطورات الموقف في مصر خشية النتائج السلبية عليها”، كان أبرزها تقرير قيل إنه تقدير سياسي نقلًا عن السفارة الإسرائيلية بالقاهرة حول ما أسمته صراعًا جديدًا تشهده دولة العسكر، بين الأجهزة الأمنية والعسكرية. في هذا التقرير قيل بوضوح إن: “الحرب القائمة بين دولتي الرئيس المخلوع مبارك، والحالي السيسي لم تعد خفية؛ لأن التسريب الأخير حول اعتقال مرسي يضرب شرعيّة السيسي ونظامه في العمق، ويفضح أساليبه الملتوية عقب الانقلاب، ويصبّ بالضرورة في صالح مبارك، الذي صدرت أخيرًا بحقّه، أحكام بالبراءة من تهم قتل المتظاهرين، وسط ترحيب واسع من رموز نظامه من رجال الأعمال المسيطرين على وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة“. وقالت أوساط أمنية إسرائيلية: “بات الصراع يدور بين دولتي يوليو 1952 ويناير 2011، بين دولة عسكريّة تحوّلت مملكة جنرالات يسعون للسيطرة التامة على مقدرات البلد، وزرع أذرع لهم في كلّ مؤسّسات الدولة، بما فيها القضائيّة والإعلاميّة، وبين دولة يناير الشابة، التي خرجت للمطالبة بالتغيير والحريّة والعدالة الاجتماعيّة والتداول السلمي للسلطة“. وقالت: “يحاول بعض المراقبين تصوير المشهد على أنّه صراع بين تيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين”، وبين الحكم العسكري، ممثلًا في السيسي، ولكنّ حقيقة الصراع دومًا هي بين دولتي يوليو 1952 ويناير 2011“. ودللت على هذا بأحكام البراءة الصادرة بحقّ كلّ رموز نظام مبارك، والتي أظهرت أنّ القضاء لا يزال يدين بالولاء للرئيس المخلوع، خاصة أن نفس هذا القضاء حكم بأحكام مشددة على معتقلي التيار الإسلامي وثوار يناير. مستقبل الصراع ويتوقع خبراء ومراقبون أنه إذا طال أمد الصراع بين دولتي العسكر (مبارك والسيسي)، أن ينهك هذا دولة السيسي الحاكمة الحالية، خصوصًا في ظلّ تضارب مصالحها مع رموز دولة مبارك، فضلًا عن الدعوات الشعبيّة المتصاعدة للتظاهر، وتوحّد القوى الثوريّة لإسقاط نظام الانقلاب، ويرون أنه إحدى نقاط القوة لصالح رافضي الحكم العسكري ككل. ويرون أنه في ظلّ حكم السيسي، سيظل حلم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، بعيد المنال؛ لأنه لا يملك حلولًا للأزمات الحالية مثل الفوضى الأمنية والتركيز على الأمن السياسي دون الأمن الجنائي، والتوتّر الأمني في سيناء، والأزمة الحدوديّة مع ليبيا، واستمرار تهريب الأسلحة للداخل، فضلًا عن الاحتجاجات الشعبيّة والعماليّة المندّدة بغلاء الأسعار والوضع الاقتصادي المتأزّم. ولكن، ما تسرب عن نية السيسي التخلص من بعض رموز حكمه في المؤسسات المختلفة، قد يغير من هذا السيناريو نسبيًا، لو نجح السيسي في التخلص منهم دون مشاكل، على غرار ما فعله السادات وناصر من قبل، خاصة أن الكاتب “هيكل” الذي عاصر هذه التجارب السابقة، هو مستشار السيسي السياسي الحالي غير المعلن. المصدر : كلمتى