أرفع من أرفف الوطن العربى كتابا عنوانه (السودان) .. وغُضّ البصر عن الصفحة الأولى متجاهلاً إياها، قافزًا عليها إلى صفحة أو صفحات تليها.! .. فلم تعد السودان الشقيقة هى ذاتها المصنّفَة المرسومة فى الأذهان (أكبر دولة عربية مساحةً للجيل الفخور الغيور) بالوطن الكبير من الخليج إلى المحيط. السودان التى ظلت لعقود بجروح اسمها (الجنوب)، ولم يُضمّدها السلاح شمالا ولا جنوبًا .. آلمتنى صباح اليوم القراءة عنها خبرًا (تعرضت أجزاء واسعة من السودان للدمار من جراء الأمطار الغزيرة والسيول التى اجتاحت المدن، بما فيها العاصمة الخرطوم). ثم ولم يكتف الخبر صياغته بالمداد والقلم، بل وتواصلت رؤوس أقلامها أصنامها: .* وحاصرت المياه العاصمة الخرطوم وباتت مهددة لأمدرمان * الخسائر الأولية تشير إلى تدمير ما يزيد على 1000 منزل. * غمرت السيول 12 ألف فدان من المساحات الزراعية. * أتلفت الأمطار عشرات الآلاف من الثوم والبصل والذرة والفول، وغيرها. ومن المؤكد أن هذه الأقلام لن تكتف بهذا القدر من الرؤوس، بل وستأتى بالنفوق، نفوق آلاف رؤوس الماشية، مما يعنى القضاء على الثروة الحيوانية فى البرارى والثروة السمكية فى البحار، ويعنى الإتلاف فى المحاصيل الزراعية، والإعاقات فى حركة النقل الجوى والبرى والملاحة البحرية، ثم يعنى ويعنى. ومن المؤكد أنه خبر آلم من قرأه من داخل السودان وخارجها، سواء من كان قد رأى السودان وأحبها من الداخل، أومن سمع وقرأ عنها من الخارج ولم يزرها؛ لأن السودان محبّبةٌ من الداخل والخارج للسودانيين ولغير السودانيين. وأثلج صدرى ما قرأته مساء اليوم عن صدى الحركات المتمردة، أنها قررت وقف عملياتها ضد الحكومة السودانية تفاعلا مع الكارثة الإنسانية التى خلّفتها السيول والفيضانات التى ضربت ولايات السودان شمالا وجنوبا. هنا يجب أن أشكر (مالك عقار)، ترى إن كنتم تعرفون مالك عقار من هو؟. إنه قائد ما يسمى قوات الجيش الشعبى المتردة على الحكومة بالخرطوم .. الصوت الذى سُمع من جنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق منذ الانفصال، وانزعجت منه الخرطوم الكثير، إذ أصدر هذا العناد الذى قيل عنه الكثير أوامره لقواته بوقف العمليات العسكرية تمردا، والتوجه إلى مساعدة المواطنين النازحين والمتأثرين من السيول تطوّعًا. لكن لماذا يا مالك عقار وقف التمرد فقط من نهاية أغسطس إلى نهاية سبتمبر؟. وهل يعنى بعد سبتمبر العودة إلى النزيف الجنوبى الشمالى للسودان الشقيقة؟. إن السودان الشقيقة محيطة بالاتجاهات الأربعة من الخارج بكل المآسى الموروثة للربيع العربى، ولكنها ولله الحمد لازالت بألف خير من الداخل .. والسر فى ذلك أن الدم السودانى لم يتقبّل التحريض والتشنّج على بعضهم البعض، الخرطوم الجارة للقاهرة وبنغازى وتونس ومالى، وغيرها "الملتهبة بحمم البراكين"، لازالت فى مأمن من تلك الّلهب التى لم تخترق الحدود السودانية شمالا ولا جنوبا؛ لأن السودانيين مهما اختلفوا فيما بينهم من الداخل، جعلوا السودان للخارج سودانا واحدة. إن الكوارث والأزمات توحد السواعد المزيلة للكوارث والمحيطة بالسواعد، نريد أن نلغى سياسة الجحود ونكران الجميل عن السودان وعن جيران السودان، كلها لا بعضها .. أليست السودان فى أفريقيا العرب؟،فالخرطوم جارة بنغازى والقاهرة وتونس ومالى، وغيرها. نريد أن نلغى سياسة الجحود ونكران الجميل من تلك العواصم كلها؛ لأنها بلدانٌ منذ قرون كانت تنتج إمّا النفط والغاز للطاقة، أو القمح والفول والذرة للأكل، أو الماء العذب للرىّ والشراب، فمن أين أتت ما أتتها من السلع فى الآونة الأخيرة؟ إنها سلع مستوردة ودخيلة لم تكن من خصوبة أراضيها. نحن نعلم أن شعوب تلك المناطق شعوب متسامحة، شعوب أوفياء، شعوب منتجة بعرق الجبين، شعوب مخلصة فدائية لتراب الوطن، وعدائية مفترسة فى وجوه أعداء الوطن .. فلتتكاتف تلك الشعوب معًا بسواعدها (الأصيلة اللادخيلة)، السودانى بالّليبى، والمصرى بالتونسى والموريتانى بالجزائرى..
لإيقاظ تلك الروح النائمة، طالما هى نائمة ولم تغادر الجسد.