الرئيس باراك حسين اوباما في خطاب تنصيبه ابدى التزاما بالتغيير في تعاطي ادارته مع هموم المواطن الامريكي ، وبخاصة القيود على الحريات والازمة الاقتصادية التي اورثها إياه سلفه . ولكنه في كلمته عندما كلف جورج ميتشل بملف الصراع العربي - الصهيوني حدد مهمته بما لا يخرج عن استنساخ رؤية بوش . مدللا على صحة القول بأن الرئيس الامريكي ، أيا كان حزبه وبصرف النظر عن اسمه وجذوره ، محكوم باستراتيجية وضعت خطوطها العريضة ادارة الرئيس ويلسون ، عندما اقر وعد بلفور قبل ان تصدره بريطانيا سنة 1917 . أي قبل أن تغدو جماعة الضغط اليهودية "اللوبي" مؤثرة في النظام والمجتمع الامريكي ، مما يعني انها استراتيجية قومية امريكية ، مؤسسة على النظر للمشروع الصهيوني باعتباره ابرز ادوات تحقيق المصالح الكونية للقوى الاجتماعية الاشد تأثيرا في صناعة القرارات الامريكية . وهي استراتيجية تقوم على اعطاء الاولوية لكل ما فيه تمكين المشروع الصهيوني ، ولو اقتضى ذلك عدم التعاطي بموضوعية مع الواقع القائم على ارض الصراع ، واهمال متعمد لحقائق تاريخه الممتد . كما تجلى ذلك في موقف اوباما من المحرقة الصهيونية . فالرئيس لم ير من مشاهد المحرقة غير اطلاق صواريخ المقاومة على مستعمرات النقب الفلسطيني المحتل ، في تجاهل كلي لالاف غارات طائرات اف 16 ومروحيات الاباتشي امريكية الصنع ، ومئات آلاف القنابل الفسفورية والعنقودية التي قذفت بها القطاع الاعلى كثافة سكانية في العالم ، وما تسببت به من تقتيل مريع ودمار شامل . إذ بلغ الشهداء 1530 ، وبمقارنة عدد مواطني القطاع بسكان الولاياتالمتحدة يبلغ ما يعادلهم 357 الف قتيل امريكي . فيما زاد عدد الجرحى على 5300 ما يعادل 1.236 مليون امريكي . وبلغ الذين شردوا من بيوتهم المدمرة مائة الف ما يعادل 23.310 مليون امريكي . فضلا عن تدمير شبه كامل للبنية التحتية في القطاع ، والاوبئة التي تهدد حياة مواطنيه ، خاصة الاطفال والحوامل وكبار السن ، كما تحذر الهيئات الدولية المختصة . اضافة لشلل الحياة الاقتصادية ، وما أصاب المؤسسات التعليمية والمساجد وغيرها من المؤسسات . والسؤال الذي تفرضه هذه المقارنة . ماذا كان الرئيس اوباما فاعلا لو أن كوبا قذفت جوارها الامريكي بمثل الحمم التي قذفتها اسرائيل على قطاع غزة واوقعت بالامريكيين مثل الذي اوقعته المحرقة الصهيونية بأهالي القطاع ؟
ولو أن الرئيس أوباما تحرى أسباب اطلاق صواريخ المقاومة ، التي يدينها بحكم مسبق وهو القانوني الضليع ، لتبين أن اطلاقها لم يجاوز كونه مقاومة مشروعه في القانون الدولي لاحتلال غير مشروع بموجب قراري مجلس الامن 242 و 338 . ولكنه تمادى في نظرته غير الموضوعية للواقع باعتباره ضحايا الارهاب الصهيوني هم المعتدين الذين يخالفون القرارات الدولية . بل واعتبر اسرائيل بارهاب الدولة الذي تقترفه تمارس حقا مشروعا بالدفاع عن النفس ، في مخالفة مفضوحة لما يقضي به العرف الدولي من أن الدفاع المشروع عن النفس انما هو دفاع دولة معتدى عليها من قوة تفوقها في امكاناتها المادية وقدراتها البشرية . وهذا غير قائم على ارض الواقع !!
والرئيس بحصره تواصل مندوبه مع محمود عباس وسلطة رام الله دون القوى الوطنية الفلسطينية صاحبة الوجود الفاعل وليس الشكلي يعمق الانقسام الفلسطيني بتعزيزه الوهم عند من لا يملكون غير دعمه وحلفائه الدوليين والاقليميين . فضلا عن أنه بهذا انما يتواصل مع العنوان الخطأ بعد انتهاء ولاية محمود عباس ، وبالتبعية سلطته . وهذا ما تكرر بعدم شمول جولة ميتشل الاولى للمنطقة زيارة القطاع المنكوب تحسبا من لقاء سلطته الشرعية . وإن ظن الرئيس الامريكي – ومثله حلفاؤه الاوروبيون - انهم بذلك يعزلون حماس وفصائل المقاومة الاخرى فهم واهمون ، بل ويعزلون انفسهم عن التواصل مع القوة صاحبة الشرعية والقدرة الفاعلة والمؤيدة فلسطينيا . فاستطلاعات الراي في فلسطينالمحتلة من النهر الى البحر والشتات الفلسطيني ، تشير الى أن فريق اوسلو ، خاصة بعد موقفه من صمود القطاع ، لم يعد يمثل الا نفسه ، ومن يستطيع شراء ولائهم باموال "المعونات" متعددة المصادر . فيما المقاومة بافشالها غايات المحرقة ، وبسلوكياتها وادائها السياسي ، عززت مكانتها عند حاضنتها الشعبية في القطاع ، واكتسبت تأييد ودعم شعوب الامة العربية والعالم الاسلامي واحرار العالم ، وغدت الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني .
وان حسب الرئيس أوباما وكذلك حلفاؤه الدوليون والاقليميون انهم بالمناورات السياسية ، وبإحكام الحصار البحري والبري على قطاع الصمود والعزة ، قد يحققون لأداتهم الصهيونية ما عجزت عنه المحرقة . وإن هم تصوروا انهم بالتحكم في عملية اعادة الاعمار من خلال السيطرة على المعابر فتصورهم وظنهم بلا اي أساس موضوعي . وليتذكروا أن اللاجئين الفلسطينيين ، يوم أن كانوا في أكثر حالاتهم بؤسا وحاجة ، رفضوا كل مشاريع التوطين والاسكان ، وتمسكوا بحقهم في العودة لديارهم ، وانهم بالاعتماد على أنفسهم بالدرجة الاولى انتزعوا اعتراف العالم بانهم الشعب الذي لا يفرط بحقوقه ولا تستلب ارادته . وليوفر الرئيس اوباما والقادة الاوروبيون وغيرهم "المعونات" التي يتحدثون عنها لدعم اقتصاداتهم المنهارة ، وليأخذوا في حسبانهم ان المقاومة بصمودها استنهضت مواطن الخير لدى شعوب الامة العربية والعالم الاسلامي واحرار العالم ، ما يوفر لقطاع العزة ما يغنيه عن جزرة حماة اسرائيل بعد ان تكسرت على صخرته الشماء عصيهم .
ولا شك ان الرئيس اوباما ، ككل الرؤساء الامريكيين السابقين ، محكوم باستراتيجية التمكين لاسرائيل باعتبارها رصيدا امريكيا . غير أن ما يواجهه من تحديات مختلف كيفيا عما واجه كل سابقيه . بدءا من كونه من اصول افريقية وأب مسلم يحتل موقعا كان حكرا على البيض ذوي الاصول الاوروبية ، مما يجعله ينحو للغلو فيما اعتادوه ليكسب ولاءهم . ثم انه يتولى منصبه في مواجهة انهيار اقتصادي ومأزق متفاقم خارجيا ، خاصة في العراق ، وتصاعد التمرد على الارادة الامريكية ، سيما في الامريكيتين الجنوبية والوسطى . فضلا عن تداعيات المحرقة التي عرت الطبيعة العنصرية لاسرائيل ، واكدت فقدانها لقوة ردعها ، وسقوط اساطير تفوقها ، وصيرورة قادتها ملاحقين دوليا لاقترافهم جرائم ابادة الجنس ، وبحيث غدت عبئا على رعاتها وليست رصيدا استراتيجيا لهم . وذلك في مقابل امتلاك قوى المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة واكتسابها عطف وتأييد أحرار العالم ، بمن فيهم الامريكيين منهم . وبالتالي فاوباما مرشح للفشل اكثر من بوش في تعاطيه مع الصراع العربي – الصهيوني ، ما لم يؤسس مقاربته على حقائق الصراع ، وأولها كون الاحتلال الصهيوني للارض العربية هو المشكلة ، وأن التفاعل مع حماس وبقية قوى المقاومة سبيل التعاطي المنتج مع القوى العربية مالكة المستقبل .