رغم أن عملية السلام الكردية الجارية تقف خلفه عوامل داخلية. ولكن ما أُهمِل إلى حد كبير هو السياق الإقليمي لعملية السلام تلك، رغم أنه لا يقل أهمية عن العوامل الداخلية. وفي هذا الصدد، فإن الفصل بين الجانب الأمني والقضية الكردية وازدهار العلاقات بين حكومة إقليم كردستان وتركيا، واندلاع الأزمة السورية ببعدها الكردي شكل السياق الإقليمي لتلك العملية. جذور الفكر والمصالح المحركة لعملية السلام على أساس الدولة التركية الحديثة، دشنت النخبة الجمهورية بعدًا جديدًا للهوية/الأمة. وكانت المكونات الرئيسية لتلك الهوية الجديدة هي القومية التركية والعلمانية والنزعة الغربية. ومن هذا المنطلق، اعتبر الأكراد – المجموعة العرقية الأكبر في تركيا من غير الأتراك – بمثابة تهديد للقومية التركية وبالتالي يشكلون تهديدًا لتماسك الدولة. وقد نظر إلى الشرق الأوسط باعتباره مناقضًا لأصحاب التوجهات الغربية في البلاد. وهكذا فقد طغى الجانب الأمني على الشرق الأوسط والنزعة الإسلامية. وقد ظلت هذه السياسة متبعة من طرف المؤسسات السياسية والبيروقراطية التركية في معظم تاريخ الجمهورية. بالنسبة لنخبة حزب العدالة والتنمية – ذي الخلفية الإسلامية – فقد اتبعوا سياسة معدلة جزئيًا: فهم لا يعتبرون القومية التركية والعلمانية والنزعة الغربية كأساس للهوية التركية، ولم يعتبروا الشرق الأوسط والإسلام السياسي والأكراد بمثابة تهديد. وهكذا فقد فصلوا بين تلك التوجهات والجانب الأمني. وقد أثبت فصل الجانب الأمني عن القضية الكردية بأنه التحدي الأكبر الذي يواجه تلك النخبة، أخذًا في الاعتبار وقوع 29 حالة تمرد في صفوف الأكراد منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923، حيث نتج عن آخرها فقط مصرع 40000 شخص. الأكثر من ذلك هو أن الحكومة اضطرت للعمل في ظل نظام يهيمن عليه الجيش، والذي وضع “خطًا أحمر” اتجاه تعامل الخارج مع الأكراد وقمعهم في الداخل، وذلك حتى عامي 2008-2009. وقد وجهت انتقادات حادة من جانب الجيش إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان بسبب اعترافه بالمشكلة الكردية عام 2005. وفي الفترة ذاتها، اتسمت العلاقات التركية مع حكومة إقليم كردستان بالتوتر. إلا أنه ومنذ عام 2009 فقد الجيش التركي سطوته على البلاد، وعملت تركيا على فصل الجانب الأمني عن المشكلة الكردية. وقد سهل ذلك إلى حد كبير تصور حزب العدالة والتنمية للعرقية الكردية باعتبارها جزءًا من الهوية الإسلامية الأساسية في تركيا. وقد تم رفع الحظر عن المظاهر الثقافية واللغوية للأكراد تدريجيًا. ولم يعد يجري شيطنة حزب العمال الكردستاني ورئيسه عبدالله أوجلان في أعين الشعب كنتيجة للحوار والمفاوضات الجارية. وقد زاد اندلاع الربيع العربي قناعة الحكومة التركية بهذه السياسة، فقد رأت النخبة التركية المحافظة أن توثيق العلاقات مع الشرق الأوسط سيمنحها مزيدًا من النفوذ في المنطقة. وبالتالي فإن توافق العناصر الفكرية والحسابات المبنية على المصالح يهيئ المناخ لتسوية المشكلة الكردية داخليًا وخارجيًا. عناصر تسهيل عملية السلام إن تغير تصور تركيا للقضية الكردية تجلى بكل وضوح في تحسين علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان. وقد حدث هذا التغيير في العلاقات بين عامي 2008-2009. تجسدت سياسة تركيا تجاه حكومة إقليم كردستان قبل ذلك بمجموعة من “الخطوط الحمراء”، وقد تزامن ذلك أيضًا مع شروع تركيا في “الانفتاح الديمقراطي” في صيف عام 2009 لتسوية القضية الكردية من خلال مفاوضات سرية مع ممثلي حزب العمال الكردستاني. بفصل الجانب الأمني عن القضية الكردية تدريجيًا، بدأت تركيا تنظر إلى حكومة إقليم كردستان من منظور الفرصة والمنافع المتبادلة. على وجه الخصوص، احتلت موارد الطاقة الكردية الهائلة غير المستغلة مكانة خاصة في المخيلة التركية المتعطشة للطاقة. وبالأخذ في الاعتبار أن تركيا تعتمد في الغالب على روسيا وإيران للحصول على الطاقة، فإنه ينظر إلى موارد إقليم كردستان باعتبارها وسيلة لزيادة أمن الطاقة في تركيا، فضلا عن مساعدة تركيا لتحقيق طموحها في أن تصبح مركزا لنقل الطاقة بين أوروبا والشرق الأوسط وسيا الوسطى. كما أن التجارة المزدهرة بين تركيا والعراق، التي يجري أكثر من 70 في المئة منها عبر حكومة إقليم كردستان كانت عاملًا آخرًا لتحسين العلاقات بين البلدين. وقد دمج الجانبان في وقت لاحق هذه العلاقات مع أهداف الأمن السياسي، وهو ما تطور لاحقا إلى تحالف استراتيجي. في الوقت نفسه، حدث الانفتاح الديمقراطي نتيجة للصراع مع حزب العمال الكردستاني واعتقال جماعي للسياسيين والمدنيين الأكراد في إطار محاكمات قادة الاتحاد الكردستاني بين عامي 2010-2011 من قبل السلطات التركية. هذا يلقي ظلالًا من الشك على اتجاه مستقبل العلاقات بين البلدين. فمالم تسوّ تركيا مشكلة القضية الكردية، سيظل تحالف تركيا مع حكومة إقليم كردستان ضعيفًا. وقد سهل ذلك، إلى جانب الضرورات المحلية، القيام بمحاولة أخرى لحل المشكلة. عوامل تعجيل عملية التسوية كان العام 2012 الأكثر دموية في الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني منذ اعتقال أوجلان في عام 1999. وقد كان تكثيف حزب العمال الكردستاني لأنشطته المسلحة في عام 2012 مستوحى بشكل خاص من أحداث في العالم العربي. فقد اعتقد حزب العمال الكردستاني أنه يمكن أن يخلق زخما ل”الربيع الكردي”، وقد تكهنت علنًا قيادة حزب العمال الكردستاني بمثل هذا الاحتمال. هذا الزخم الذي ولده الربيع العربي، خصوصًا الوضع السوري المعقد، كان له تأثير كبير على حزب العمال الكردستاني، وكذلك على حسابات تركيا بشأن القضية الكردية. وعلى الرغم من حقيقة أن حزب العمال الكردستاني قد فشل في توليد زخم مماثل في الشطر الكردي من تركيا، فقد أظهر بوضوح أنه يمكن أيضًا جني الغنائم من الربيع العربي، كما استطاع أيضًا حزب الاتحاد الديمقراطي كسب أرض في الجزء الكردي في سوريا. في عام 2012، سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي على عدة بلدات حدودية إثر انسحاب القوات النظامية السورية منها وأعلن حكمًا ذاتيًا عليها، مما أثار غضب تركيا ودفع أنقرة إلى التهديد بتدخل عسكري عند الضرورة، لصد أي محاولة من الأكراد لفرض أمر واقع جديد. عند هذه المرحلة، رفضت تركيا لقاء أي ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي وبدلًا من ذلك وضعت ثلاثة شروط مسبقة للحوار هي: 1) قيام حزب الاتحاد الديمقراطي بقطع العلاقات مع النظام السوري، وهو ما نفاه الحزب في مناسبات عديدة . 2) وألا يدعم الحزب أي جماعات إرهابية في تركيا، مما يعني أن على الحزب أن ينأى بنفسه عن التنظيم الأم، حزب العمال الكردستاني . 3) ألا يسعى الحزب إلى فرض أي أمر واقع إلى أن يتم حل الأزمة السورية، وهو ما يعني أنه لا ينبغي إقامة منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي في سوريا في حين لا يزال الصراع مستمرًا. ولكن هذه السياسة لم تنجح. فبتدهور الأزمة في سوريا، لم تتحقق التوقعات الخاصة بالتدخل وأثبتت المعارضة عدم فعاليتها، في حين أثبت حزب الاتحاد الديمقراطي مرونته من خلال تعزيز وترسيخ سيطرته على منطقة الكردية المأهولة بالسكان في سوريا، والتي يقع معظمها على الحدود مع تركيا. ونتيجة لذلك، راجعت أنقرة سياستها تجاه الحزب. في السابق دُعِي زعيمه صالح مسلم، وهو شخصية غير مرغوب فيه، من قبل وزارة الخارجية إلى تركيا لإجراء محادثات، التقى خلالها مع وكيل وزارة الخارجية فريدون سينيرليوغلو ورئيس منظمة الاستخبارات الوطنية، هاكان فيدان. وقد شهدت هذه الجلسات لغة حاسمة من الجانب التركي. وبالمثل، اعتمد الحزب على لغة جديدة للحد من مخاوف تركيا. فقد تحدث عن إمكانية التعاون مع تركيا وحاول أن ينقل رسالة مفادها أن المكاسب الكردية في سوريا لا يجب اعتبارها خسارة لتركيا. وكما ذكرنا أعلاه، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي هو فرع من حزب العمال الكردستاني. ويرتبط أيضًا بعبد الله أوجلان كزعيم له. وبالنظر إلى هذا الارتباط المباشر بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، فمن الواضح أنه ما لم تعالج تركيا القضية الكردية المحلية الخاصة بها بشكل جدي، وتتحاور مع حزب العمال الكردستاني، فإن التقارب مع الأكراد السوريين الذي يقودهم حزب الاتحاد الديمقراطي سيفشل، وستتعقد سياسة تركيا تجاه سوريا. هذا هو الدافع خلف إعلان أردوغان بدء الحوار مع أوجلان لحل القضية الكردية في الأيام الأخيرة من عام 2012.