لا مفر من الاعتراف بأن مثلث القوة في الشرق سيظل فكرة مجهضة، طالما بقى العرب خارجه، محتفظين بمسافات متباعدة إزاء الأتراك والإيرانيين. (1) أذكر بأن مصطلح "مثلث القوة" صكه الدكتور جمال حمدان في مؤلفه "إستراتيجية الاستعمار والتحرير" في ستينيات القرن الماضي. لكن النظر إلى الكيانات الثلاثة (العرب والأتراك والإيرانيين) باعتبارها كتلة إستراتيجية واحدة فكرة متداولة بين الباحثين الغربيين سواء الذين أرخوا للشرق، أو المخططين العسكريين الذين تطلعوا إلى بسط هيمنتهم على المنطقة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ثم عملوا على تفكيكها وتمزيقها بعد الحرب العالمية الأولى، في بدايات القرن العشرين. وتم توثيق جيد لهذه المرحلة في الكتاب المهم الذي صدر ضمن المشروع القومي للترجمة بعنوان "الشرق الأوسط – محاولة للفهم" (حررته ديبورا جيرنر وترجمه أحمد عبدالحميد). أدري أن الكلام عن وفاق عربي تركي إيراني يبدو الآن طموحا يتجاوز السقوف المعتمدة، على الأقل فيما يخص العالم العربي، الذي هو الضلع الثالث في المثلث. ذلك أن الأتراك إذا كانت لهم دولة واحدة، وكذلك الإيرانيون، فالأمر ليس كذلك في العالم العربي، الذي تبدو مشكلته أكثر تعقيدا، فهو يضم 22 دولة ليست على وفاق فيما بينها، لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، إذ هي منقسمة بين دول موافقة وأخرى ممانعة وثالثة بين بين. ناهيك عن أن الوفاق الوطني داخل القطر الواحد غائب في بعض الأحوال (لبنان والعراق واليمن نموذجا). أدرى كذلك أن طريق الوفاق المرجو بين العرب وتركيا وإيران ليس مفروشا بالورود، لكنه مسكون بمشاعر عدم الاكتراث إزاء الأتراك وعدم الثقة في الإيرانيين، الأمر الذي يضع عقبات لا يستهان بها أمام تحقيق الوفاق المنشود. أدري أيضا أن ذلك الوفاق لن يلقى ترحيبا من جانب قوى الهيمنة في العالم، التي إذا كانت قد أشهرت "الفيتو" على مجرد المصالحة بين فتح وحماس، فما بالك بها لو أن هذه المصالحة طرحت بين العرب والأتراك والإيرانيين، في الوقت الذي تحاول تلك القوى حشد بعض العرب ضد إيران. (2) لا أحد يستطيع أن يتجاهل تلك الخلفيات. ذلك أن الكلام عن الوفاق، الذي يعني مد جسور التفاهم مع فتح الأبواب لتبادل المصالح، لا يستلزم اتفاقا في كل شيء، وإنما يمثل دعوة لحسن إدارة الاختلاف. وهو ما أشرت إليه في الأسبوع الماضى. فإنشاء جامعة الدول العربية كإطار للتعبير عن الأمة العربية، لم يمنع الخلافات الحدودية بين السعودية من جانب وكل من اليمن والإمارات من جانب آخر، كما لم يمنع الخلافات بين الجزائر والمغرب أو مصر والسودان، أو سوريا ولبنان، أو الكويت والعراق. بل ان المرء يستحي أن يقول انه إذا سوغت بعض الدول نفسها أن تقيم علاقات مع إسرائيل قفزا فوق الجراح العميقة وتلال الجثث والأشلاء وبحر الدماء الذي يفصل بيننا وبينهم، فإن هذه الدول ينبغي ألا تتمنع على المصالحة مع بقية الدول العربية، أو على الوفاق مع الأتراك والإيرانيين. هذا إذا كنا نحتكم في التقدير إلى المصالح العليا وأمن المنطقة. في الوقت ذاته، فإنه إذا كان العقلاء في كل مكان بالكرة الأرضية يصطفون جنبا إلى جنب للدفاع عن مصالحهم وأمنهم، فلا أعرف لماذا نستثنى نحن من دونهم، بحيث تظل حسابات القوى الأجنبية في صياغة منظومتنا الإقليمية مقدمة على حسابات المصلحة العليا لدول المنطقة؟ على صعيد آخر، فإنه في الوقت الذي تتحول تركيا إلى قوة سياسية واقتصادية مركزية، كما أن إيران بصدد التحول إلى قوة نووية يعمل لها الحساب وهى لاعب أساسي في المنطقة، فإنه ليس معقولا ولا مقبولا أن يقف العرب ممزقين ومتفرجين أمام ما يجري حولهم، محتمين بالمظلة الأمريكية ومراهنين على قواعدها وضغوطها. ثمة اعتبار أهم من كل ما سبق هو أن هذه المنطقة التي نعيشها في غرب آسيا مرشحة لأن تصبح البؤرة الأساسية للصراعات الدولية في نصف القرن الحالي، سواء بسبب كونها الساحة الرئيسية للصراعات الدولية حول منابع الطاقة ووسائل نقلها (أوروبا – الصين - الهند) أو بسبب موقعها من الجسر اليوروآسيوي، أو بسبب الصراع العربي الإسرائيلى. وهذه ليست وجهة نظر شخصية، لكنها نقطة اتفاق بين كثير من الباحثين في الشؤون الإستراتيجية، وللدكتور سمير التقي مدير مركز الشرق للدراسات الدولية في دمشق دراسة وافية في هذا الصدد. إذا صح ذلك كله، فإن أي عقل رشيد مهموم بمستقبل الأمة ومحب لها سيدرك أن التوافق بين الكيانات الثلاثة ضرورة لا غنى عنها لتحقيق المصالح المشتركة ولمواجهة التهديدات الخارجية، إن شئت فقل إن الوفاق باب وحيد لتحقيق الأمن الإقليمي، الذي يعد الأمن العربي جزءا منه. (3) هذا الموضوع لم يغب عن بال بعض الباحثين في العلوم السياسية ومراكز البحوث المعنية بالمستقبل العربي. وفي حدود علمي فإن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت اهتم بموضوع الحوار العربي الإيرانى. ولا يزال يسعى لإدارة حوار عربي تركي. كما بادر مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث في بيروت في عام 1996 إلى تنظيم ندوة حول المثلث الإسلامي. ورتب مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام أكثر من مؤتمر حول العلاقات المصرية الإيرانية. كما أن برنامج حوار الحضارات التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة نظم أكثر من ندوة حول العلاقات العربية الإيرانية والعربية التركية. كذلك فإن لمجلتي "شؤون الأوسط" الفصلية اللبنانية وشهرية "السياسة الدولية" المصرية اهتماما خاصا بمتابعة الموضوع. لكن يحسب لمركز "الجزيرة" للدراسات أنه دعا إلى تأسيس "منتدى المشرق" لإدارة حوار عربي تركي إيرانى. وعقد لذلك لقاء بالدوحة في أوائل يونيو الماضى. اشترك فيه نخبة من مثقفي الدوائر الثلاث، وكانت هذه خطوة متقدمة على سابقاتها. ذلك أنها المرة الأولى التي تتاح فيها الفرصة لمثقفي هذه الدول أن يجلسوا وجها إلى وجه ويديرون بينهم حوارا حول كيفية تحقيق حلم الوفاق. لأن الحيز المتاح لا يتسع لعرض الأفكار التي دارت في تلك المناسبات أو المطبوعات، التي تابعت معظمها، فإنني سأحاول أن أستخلص منها أبرز النقاط التي سلطت الضوء على الموقفين الإيراني والتركي بوجه أخص. فيما يخص إيران، كانت الملاحظة الجوهرية التي أبداها المثقفون الإيرانيون في ندوة مركز الجزيرة أنه باستثناء المرحلة الناصرية، فإن الموقف العربي كان أكثر قبولا للشاه، لكنه تغير بعد نجاح الثورة الإسلامية في عام 79. حدث ذلك في حين كان نظام الشاه يمثل قاعدة للسياسة الأمريكية، ومؤيدا لإسرائيل، ومعاديا للعروبة إلى حد محاولة تطهير اللغة الفارسية في مفرداتها، ثم إن الشاه هو الذي ضم الجزر الثلاث التي هي موضوع نزاع حتى الآن. كما أنه كان هناك سكوت على برنامجه النووي الذي وقع اتفاق بصدده مع واشنطن في عام 1975، وفي عام 1978 وافق الرئيس كارتر على إقامة ما بين 6و8 محطات للطاقة النووية بقيمة عشرة مليارات دولار. وكانت أمريكا هي من أقام أول منشأة لتخصيب اليورانيوم في إيران آنذاك. بعد الثورة، حين ركزت الإستراتيجية الإيرانية على المحيط الإقليمي، فوقفت ضد إسرائيل وعارضت السياسة الأمريكية وأيدت المقاومة (متبنية في ذلك خطا أقرب إلى السياسة الناصرية)، حينئذ توترت العلاقات بين أغلب الأنظمة العربية وإيران، وأصبح الشك هو قاعدة التعامل، في حين أصبحت الثقة استثناء في مجرى علاقات الطرفين، وبمضي الوقت وفي ظل ضيق قنوات الحذر أو انقطاعها تراكمت عدة قضايا على الجانبين، فالعرب أصبحوا مقتنعين بأن المظلة الأمريكية توفر لهم الأمن، في حين وجد الإيرانيون أن ذلك يهدد أمنهم. في الوقت ذاته تعددت مصادر الشك العربي في الإيرانيين نتيجة عوامل عدة في مقدمتها ما يلي: فكرة تصدير الثورة إلى خارج إيران – الموقف من قضية فلسطين – الجزر الثلاث – أمن الخليج – مستقبل العراق – مستقبل لبنان – التشيع في العالم العربي. هذه المشكلات المتراكمة لم تحل دون إقامة علاقات اقتصادية قوية مع دول الخليج بوجه أخص، رغم استمرار النزاع حول الجزر الثلاث، حتى بلغ عدد الشركات الإيرانية التي تعمل في الخليج 7200 شركة، أغلبها في دولة الإمارات (إمارة رأس الخيمة وحدها بها أكثر من 330 شركة، و20 مليار دولار استثمرها الإيرانيون في دبي عام 2006). الموقف التركي أقل تعقيدا، اذ جانب الحوارات التي دارت بصدده في ندوة الدوحة، والتي شارك فيها الدكتور أحمد داوود أوغلو كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان. فإن محلية "السياسة الدولية" نشرت في عدد يوليو 2008 دراستين مهمتين حول ذات الموضوع. إحداهما للدكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية الخبير في الشؤون التركية. والدكتور محمد نور الدين مدير مركز الدراسات الإستراتيجية ببيروت. خلاصة ما قيل فى الدراستين أن العلاقات التركية العربية تجاوزت مرحلة الانسلاخ المتبادل "التي سادت بعد إلغاء الخلافة وخلال المرحلة الكمالية" (التي بدأت سنة 1923)، وتحسنت في أواخر القرن الماضي، لكنها شهدت منعطفا مهما مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، وكان الطلب التركي بالانضمام إلى الجامعة العربية كمراقب تجسيدا لذلك التحول. بذات القدر فإن الفتور الذي قوبل به الطلب جاء تعبيرا بليغا عن حقيقة الموقف العربى. وحتى الآن فإن العلاقات الاقتصادية بين تركيا والعالم العربي أفضل كثيرا من العلاقات السياسية، رغم أن مسار تلك العلاقات لا تتخلله العقبات أو المشكلات التي تعترض مسار العلاقات العربية الإيرانية. (4) في حوارات منتدى المشرق كان الاتفاق واضحا على أن النظام العربي لم يبذل جهدا ملموسا لكسب تركيا وإيران إلى منظومة الأمن العربي، رغم إلحاح المتطلبات الإستراتيجية، ورغم الحماس البادئ والأيدى الممدودة من أنقره وطهران نحو العواصم العربية. وهي أياد ليست ممدودة للعناق وإنما للتفاهم حول الأمن المشترك والقضايا المعلقة، ولأن السياسيين لم ينجحوا في هذه المهمة، فربما كان تواصل المثقفين مفيدا ومطلوبا، لا لحل المشكلات ولكن للاتفاق على كيفية إدارة الخلاف حولها. الأمر الذي قد يحرك المياه الراكدة في المجرى السياسي بما يتجاوز حالة الفتور الراهنة، ولأن الله يضع سره أحيانا في أضعف خلقه، فربما قدر للمثقفين أن ينجزوا شيئا على هذا الصعيد، إن لم يكن لتحقيق التفاهم، فعلى الأقل لتعميق الفهم وإبراء الذمة.