الفتنة في اللغة هي الاختبار والابتلاء، وأصلها من فَتَنَ الذهب والفضة أي صهرهما في النار؛ لأن بهذا الانصهار تخرج الشوائب ويبقى المعدن الصافي، فالفتنة هي التي تكشف الصريح عن الرغوة، ولهذا قال المولى سبحانه وتعالى مبينا ضرورة وقوعها: )الم (1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ( (1/2 العنكبوت)، ثم أوضح حكمة هذا الوقوع في قوله تعالى: )أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ( (17/ الرعد). ولذلك كانت الفتن كاشفة لمعادن الرجال، كما هي كاشفة لكثير من الحقائق. أما الحكومة – حكومة الحزب الوطني (المنتفعون) رغم ضخامة الإمكانيات لم تكن لها حجة ولا منطق ولم تدخل في جدل سياسي أو اجتماعي واقتصرت المعالجة على جحافل الشرطة (الأمن المركزي) تساندها فرق الكاراتيه بالملابس المدنية للاعتداء على المحتجين أو حتى للتخريب كما حدث في المحلة، ونسب ذلك زورا إلى شعبها. هذا هو الإفلاس التام أن تعتمد الحكومة على العنف فتكون أسيرة للأجهزة الأمنية، وهذا من علامات الاحتضار؛ فكما أن للأفراد أعمارا لا يتجاوزونها فكذلك للدول والنظم والمؤسسات أدوار من النمو والاضمحلال إلى أن تموت ولكل دور علاماته التي يعرفها المتخصصون: ")وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ( (34/الأعراف). حين قال معاوية: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني؛ ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ كنت إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها". كان يعبر عن حكمة سياسية هامة هي أن استخدام القوة أو العنف يجب أن يكون محدودا واستثنائيا لأن الحكم لا يستند على العنف وإنما يستند إلى رضا المحكومين لما يحققه لهم من مصالح. فإذا أصبح النظام السياسي مناقضا لمصالح المحكومين لا يجديه العنف شيئا. ليس بوسع أحد أن يواجه بالقوة شعبا بأسره، هنا سينقلب السحر على الساحر وستنكسر العصا حين يتسع الخرق على الراقع. إن قوات الأمن هي أيضا من أبناء الشعب بل من الفئات المسحوقة والمجبرة والتي تعمل فيما يشبه السخرة ولا مصلحة لها في ضرب أهلها؛ بل ولا مصلحة لها في الدفاع عن حاكم فظ لقاء ثمن بخس يدفعه لها كارها إذ هي من ضحاياه بل من أول ضحاياه. أما الحقيقة الثانية التي كشفت عنها الأحداث فهي سقوط الإعلام حتى بعض الفضائيات التي كان يُظن أنها جادة وملتزمة لم تكن على مستوى الحدث وكان الدور الأكبر للشبكة العنكبوتية (الانترنت) وللهواتف المحمولة، ولعل لاتفاقية تنظيم البث الفضائي العربي تأثير في ذلك فقد عودتنا التجارب أن الحكومات العربية لا تتفق إلا ضد شعوبها. وأما الكشف الثالث فهو موقف القوى السياسية التي تجاوزتها الأحداث سواء تلك التي باعت الشعب صراحة لقاء اتفاق مع الحزب الوطني (حزب المنتفعين) على أن يلقي لهم بفتات مائدة المحليات، وهذه هي أحزاب الوفد والتجمع والناصري أو تلك الأحزاب التي نكصت على عقبيها وتخلت عن الشعب حين سنحت لها الفرصة؛ فكانت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؛ أقصد الإخوان المسلمين. ومن الأهمية بمكان أن نُذَكِّر بأن الأحزاب لا تنشأ من أعلى، ولا تصدر بقرار جمهوري. الأحزاب السياسية تعبر عن موقف نخبة من المجتمع سواء أكان هذا الموقف مبني على اعتبارات مصلحية أو عقائدية؛ ويتضمن هذا الموقف تصورا معينا للمستقبل، ومواجهة مع الواقع من أجل تغييره، ومن هنا كان الحزب الوطني مجرد هيئة منتفعين هدفها من العمل السياسي ليس النضال من أجل تحقيق مثل سياسية معينة؛ وإنما مجرد تحقيق بعض المنافع بمساندة الحاكم حتى لو كان الثمن هو بيع الأمة كلها حاضرها ومستقبلها. وأما حزب الوفد فقد كان ممثلا لموقف التيار الوطني في مواجهة الاحتلال الإنجليزي، إذ انبثق هذا الحزب عن ثورة 1919 تضامنا مع الوفد المصري الذي توجه إلى لوزان للتفاوض على الجلاء منخدعا بمبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر ومنها مبدأ تقرير المصير، ولما اعتقل الإنجليز أعضاء هذا الوفد، ونفوهم إلى جزيرة مالطة ظهرت حركة شعبية مساندة للوفد، وانبثق عنها هذا الحزب الذي استمد اسمه من هذا الحدث التاريخي. ومن هنا كان اعتقادنا الجازم بأن هذا الحزب يمثل حقبة تاريخية مضت، ولابد أن يندثر لأنه لا يملك تصورا واضحا للمستقبل، وقد أتى موقفه الأخير بمثابة انتحار، أو إن شئت الدقة شهادة وفاة. وأما حزب التجمع فهو امتداد تاريخي للحزب الشيوعي المصري ذو النشأة اليهودية والمرتبط بالشيوعية العالمية التي لا جذور لها في التربة المصرية رغم الضجيج الذي أحدثوه أيام عبد الناصر حين استولوا على الإعلام تحت مظلة الاشتراكية العربية، وتندر الناس عليهم وقتها حين احتفلوا بمولد لينين زعيم الثورة البلشفية، فقال الناس مولد سيدنا لينين. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط دول المنظومة الاشتراكية انطمر في لجة التاريخ. وموقفه الأخير لا يقدم ولا يؤخر ولا يمكن القول بأن هذا الموقف قد أنهى شعبيته لأنه لم تكن له شعبية بالأساس؛ لكن المهم أن هذا الموقف المعادي صراحة للشعب قد أفقده الفرصة للتسلل في المستقبل إلى صفوف الانتفاضة الشعبية. وأما الحزب الناصري فقد جاء موقفه فاضحا له أمام الشباب الذين لم يشهدوا عهد عبد الناصر ولم يحضروا نكبة 1967 وما لابسها وظنوا به خيرا حين قارنوه بما آل إليه الحال، لكنه لم يكن غريبا بالنسبة للشيوخ أمثالي. إن عهد عبد الناصر هو العهد المؤسس لما نحن فيه فقد أقام حكما طغيانيا مستبدا ولم ينجح في إقامة مؤسسات فانتهى به المطاف إلى مجموعة من مراكز القوى تتصارع فيما بينها على النفوذ مثل العصابات الإجرامية. ومن ثم لم تكن هزيمة 67 مجرد نكسة كما سماها ولكنها نكبة حقيقية لازلنا نعاني من آثارها ونتيجة منطقية لغياب الحرية. فكان سقوطه الآن خيرا حتى لا ينخدع الناس ويتوجهوا إلى المستقبل برغبة صادقة في إقامة مجتمع حر ومؤسسات شرعية. أما الذي كان غريبا حقا بالنسبة لي وربما للجمهور العريض فهو موقف الإخوان المسلمين الذي بدا خروجا على منهج الرعيل الأول من مؤسسي الجماعة. كما بدا خيانة لتضحيات جسام قدمتها أجيال وأجيال من الإخوان، وهزة عنيفة في ثقة الناس بها؛ بل وفي ثقة أعضائها وخاصة الشباب منهم. في تقديري أن هذا خطأ سياسي كبير أو في الحقيقة خطأ قاتل، ولا أجد لهم عذرا فيه وما قاله واحد من زعمائهم في الفضائيات هو بعينه ما قاله الحزب الوطني أن الدعوة للإضراب كانت مجهولة المصدر وكيفيته مجهولة، وهذا كله كلام فارغ لن أشغل نفسي به. وفي اعتقادي أن هذا الخطأ كان المعول الأخير في القضاء على مستقبل الإخوان السياسي لأنه أتى بعد سلسلة من الأخطاء السياسية والفكرية. منذ عام تقريبا وبمناسبة انتخابات مجلس الشورى كتبت مقالا على صورة رسالة للإخوان المسلمين بعنوان: "لو كنت مكانكم لقاطعت انتخابات الشورى". أرسلت هذا المقال أولا لموقع الإخوان على شبكة الانترنت فلم ينشر؛ فنشرته في موقع حزب العمل، وهذا في حد ذاته أمر لافت للنظر لأن معناه أنهم يضيقون بالنقد، فكيف سيستفيدون منه. و كان مما كتبته في ذلك الوقت: لو كنت مكانكم لقاطعت انتخابات الشورى لنفس الأسباب التي دعتكم مع باقي فصائل المعارضة إلى مقاطعة الاستفتاء على ما سمي بالإصلاحات الدستورية. من الواضح أن هذه التعديلات الدستورية تهدف إلى إقصاء المرجعية الإسلامية تطبيقا لمبدأ اللادينية على النمط الذي كان معمولا به في تركيا، ومن الوضح كذلك أن هذا المبدأ هو من أقبح وأخبث تيارات الإلحاد، ذلك أن الملاحدة بدلا من مهاجمة الدين بصورة مباشرة، يعملون على إقصائه من المجتمع؛ فكأنهم يقولون نحن نؤمن بالله لكن لا نطبق أحكامه أو كأنهم يقولون نشكرك اللهم على نعمتك لكنا لسنا بحاجة إليها. ولا أدري كيف يسير هذا التعديل مع المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة، إلا إذا كان المراد من هذه التعديلات التمهيد لإلغاء هذه المادة غير المطبقة عملا. من الواضح وضوح الصبح لذي عينين أن هذا النظام الفاقد لأي شرعية لا يمكن أن يأتي منه إصلاح أبدا. إن مبدأ تداول السلطة مبدأ لا يعترفون به أصلا، ويعلم الجميع كيف جرت الانتخابات التشريعية الماضية؟ لقد حوصرت اللجان ومنع الناخبون من الوصول للمقرات الانتخابية، وأعدت الداخلية فرقا من الشرطة السرية أمام لجان الانتخاب للتحرش بالناخبين وإرهابهم، وغُيرت نتائج بعد أن أظهر فرز الأصوات غير ما يريدون، هذا غير اعتقال المرشحين والأنصار. إن مجرد إجراء الانتخابات ليس إلا ديكورا يقصد به إطالة أمد النظام، ولا يفيد الشعب في شيء بل يزيد من معاناته، ومجرد الاشتراك في هذه المهزلة المسماة بالانتخابات يضفي عليها شيئا من المصداقية كنا نربأ بكم أن تقدموها طوعا لنظام فاسد. نظام يديره مجموعة ممن يسمون برجال الأعمال – ولا ندري أي أعمال هذه – إلا أن تكون تدمير المجتمع. هؤلاء الفاسدون الذين ملأت فضائحهم الآفاق من نصب وغش واحتكار وبيع للمال العام وإغراق للمواطنين في عبارت الموت أو إحراقهم في قطارات السكك الحديدية، هم المنافحون عن النظام الفاسد لأنهم المستفيدون من بقائه. إن مشاركة القوى الوطنية في هذه المهزلة المسماة بالانتخابات لا يصب في مصلحة الشعب ولا في مصلحة الأمة ولا في مصلحة المعارضة ذاتها؛ لأنها ستفقدها مصداقيتها. لقد كانت الجماهير أكثر وعيا حين عزفت عن التصويت ورفضت المشاركة في هذه المسرحية الهزلية. أيها الإخوان الأعزاء أي مصداقية وأي شرعية لنظام تحالف مع أعداء الأمة، وفي جميع المواقف وقف في خندق الأعداء. ألم يمنح رئيس النظام للجنرال الأمريكي المسؤول عن القيادة المركزية الأمريكية الوسطى للحرب على أفغانستان والعراق وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى؟ والمفترض أن الوسام يمنح لمن أدوا خدمات جليلة للوطن، قولوا لي بالله عليكم هل احتلال أفغانستان والعراق وقتل أهلهما وتشريدهم خدمة جليلة لمصر؟ أم هل هذا الرفض الصلف لإقامة جسر بين السعودية ومصر يخدم مصلحة مصر أم يصب في مصلحة إسرائيل؟ أم أن هذا الموقف من العدوان الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي يخدم مصلحة مصر؟. أم أن انتصار المقاومة في لبنان وغدا بإذن الله في العراق وفلسطين والصومال والشيشان يتعارض مع خيار السلام (الاستسلام) الخيار الاستراتيجي الوحيد. هذا على المستوى السياسي وقد أثبتت الأحداث أن حركة المجتمع قد تجاوزت هذه القوى السياسية سواء التي وقفت صراحة ضد الشعب أو التي تخلت عنه بعد أن وثق بها، وهذا كاف في حد ذاته لأن تنطمر في لجة التاريخ. وأما على المستوى الفكري فالمسألة أشد خطورة، منذ عامين تقريبا شاهدت برنامجا في إحدى الفضائيا استضاف كلا من السيد/ مجدي الدقاق عن الحزب الوطني الحاكم، والدكتور/ عبد المنعم أبو الفتوح عن الإخوان المسلمين، وكان الحوار سطحيا للغاية، وكانت ردود أبو الفتوح تافهة وكلام الدقاق أكثر تفاهة. ولما كانت هذه الأفكار قد ترددت من قياديين آخرين في الإخوان رأيت من واجبي أن أعرضها مع ردودي عليها. كان من كلامهم أنهم يريدون دولة مدنية بمرجعية إسلامية، وهذا كلام غريب كيف تكون مدنية بمرجعية إسلامية؟ وما معنى مدنية؟ ولماذا لا تكون دينية؟. الحقيقة أن الدولة إما أن تكون دينية أو لادينية. أما أن تكون مدنية بمرجعية دينية فهذا أمر غير مفهوم. مدني بالنسبة للفكر الغربي يقابل كنسي، وعندهم هناك سلطتان: الكنيسة والدولة، وقد انتهى الصراع الطويل بين الكنيسة والملوك إلى إقرار الفصل بين السلطتين بحيث لا تتدخل إحداهما في عمل الأخرى. أما عندنا فلا توجد كنيسة أصلا ورأس النسر واحد من البداية؛ ولذلك قال السلف منا: "الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع". ثم ها هنا اختلاف أساسي في معنى الدين بيننا وبينهم الدين عندهم طريقة للعبادةmode de prière بينما عندنا منهج للحياة؛ والعبادة جزء من الدين أو هي تمهيد أو منهج تربية لأنها مشتقة من عبَّد الطريق بمعنى مهده وأعده للسير، والعبادات تربية للفرد على أن يقوم بدوره الاجتماعي كجزء من أمة لها رسالة وهي تحقيق خلافة الله في الأرض، ولذلك عرَّف السلف منا الدين بأنه: "وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول". كأنهم يفرون من مصطلح الدولة الإسلامية وإذا سألتهم في ذلك قالوا إن مصطلح الدولة الدينية يثير استياء الناس لأن سيطرة الكنيسة في العصور الوسطى أصبحت مثالا للتخلف. وهذا أمر في غاية الغرابة فلا عندنا كنيسة أصلا ولا العصور الوسطى بالنسبة لنا رمزا للتأخر بل على العكس كنا صناع الحضارة؛ بل حتى في أوروبا فإن رمي العصور الوسطى بالجهل والغباوة والبربرية كان من اتهامات عصر النهضة الذي كان عصر فوضى وهدم وتحلل في الروابط العائلية والدينية، وأصبح هذا من الشائعات التي يأخذ بها عامة دون تمحيص أشباه المثقفين؛ أي من لم ترسخ في المعارف قدمه ولا يملك من أدوات الطالب سوى يداه وقلمه؛ لكنه مركب النقص:
إذا ظهرت لبيبة فاتبعوها فلب القول ما قالت لبيبة
وإذا كان ثمة فارقا في معنى الدين بيننا وبينهم؛ فهناك كذلك فارق في معنى السياسة؛ فالسياسة عند الغربيين هي فن الحكم بينما عندنا "هي فن استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة". وأنت ترى أن هذا فارق غير يسير فلا الدين عندنا هو الدين عندهم ولا السياسة عندنا هي السياسة عندهم؛ وهذا الفارق في المفاهيم راجع إلى طبيعة القيم التي تحكم الحضارتين؛ فالسياسة عندنا ذات مفهوم اجتماعي أوسع مما هي عند الغربيين، مفهوم يتعلق بالظاهرة الاجتماعية ككل. السياسة عندنا ليست مجرد: "فن الحكم" بل إن الحكم ليس هدفا في ذاته؛ وإنما هو وسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي. والإصلاح الاجتماعي ليس قاصرا على أمور الدنيا باعتبار أن الدنيا مطلوبة بالعَرَض لا بالذات، لأن الهدف من حياة الإنسان تحقيق السعادة الدائمة في الآخرة، ولذلك كانت الآخرة مطلوبة لذاتها، ومادام ذلك مستحيلا دون المرور بالدنيا؛ كانت الدنيا مطلوبة لأنها الوسيلة للآخرة. ومن هنا يقسم ابن خلدون (المتوفى 808ه) النظم السياسية إلى ثلاث مراتب بحسب أفضليتها: o أولا: ما يسميه بالملك الطبيعي وهو "حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. فهذه صورة بدائية ليس فيها قانون، وإنما هي هوى الحاكم أو الطاغية، وهذا ما نحن فيه الآن. o ثانيا: ما يسميه بالملك السياسي وهو: "حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في مصالحهم الدنيوية". فهذه صورة أرقى من الأولى حيث يوجد قانون يضعه عقلاء الأمة ليحقق مصالح الناس في الدنيا، لكنها لا تزال قاصرة عن أفق الخلافة، وهذا هو الحال في الديمقراطيات الغربية. o ثالثا: الخلافة وهي: "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أن الدنيا وأحوالها إنما ترجع في نظر الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة". فهذه أرقى من سابقتها في ناحيتين: الأولى: أنها حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي؛ وليس النظر العقلي، والثانية: أنها تهدف إلى تحقيق مصالح الناس الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، لا المصالح الدنيوية فقط، وبعبارة ابن خلدون لأن مصالح الدنيا إنما ترجع في نظر الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فالدنيا وأحوالها عند الشارع ليست إلا مطية للآخرة، ومن فقد المطية فقد الوصول". كان من نتائج سقوط الخلافة وسيطرة القوى الأوروبية على العالم الإسلامي أن اهتزت ثقتهم في أنفسهم وأصبحوا أكثر استعدادا لاتباع الغرب والمغلوب يميل إلى تقليد الغالب كما قال ابن خلدون. وساهم في ذلك أجيال من أشباه المفكرين قام الغرب نفسه على تربيتهم وإعدادهم ليكونوا أداة الغزو الثقافي. وأشباه المفكرين هؤلاء يشعر بعضهم عمدا وبعضهم سهوا بأنهم يلعبون نفس الدور الذي لعبه جان جاك روسو وفولتير وأنهم يقاومون خرافات العصور الوسطى وتعصبها الديني. لقد قام الغرب بسلب ثرواتنا في باطن الأرض وظاهرها لكن لو كانت الثروات سلبت وبقينا نحن أصحاء لاستطعنا أن نستردها وأن نقف على أقدامنا من جديد لكن المشكلة الأعوص أننا فقدنا ذواتنا فقدنا أنفسنا فأصبحنا خير مثال على نظرية الصراع عند سورديل. يقول سورديل: "عندما يقوم مالك من الملاك أو محلل نفساني بتفريغ أحد من شخصيته وقمعه وإذلاله، يتولد فيه إحساس بمركب النقص فيشعر بأنه ضئيل وبأن الذي قام بهذا العمل أضخم مما هو عليه بالفعل، ويجد نفسه خاليا من ذاته وبلا جذور وبلا أساس، وأن الذي ولد النقص فيه من جنس أسمى ولوضع الحمل عن كاهله لا يجد وسيلة سوى الهروب من ذاته وتقمص ذاتية الآخر ويؤدي به ذلك إلى الاغتراب عن ذاته وحجبها ومداراتها وإنكارها والتظاهر بأنه لا ينتمي إلى هذه الثقافة ولا إلى هذا الجنس ولا إلى هذه اللغة، ويظن أنه بمجرد التظاهر بأنه مثله يخلص من هجومه عليه، وسخريته منه، وعندما يصل مجتمع ما إلى هذا الحد، فإنه يعمل لإخفاء ذاته وإنكارها ويعمل لتخريب نفسه وعبوديتها". حين تفكرت في هذا الأمر ألحت عليَّ خاطرة لم أستطع طردها عن الذهن: هل الإخوان والوطني وجهان لعملة واحدة؟ إذا لم يكن الإسلام هو الهدف والسياسة وسيلة والحكم أحد أدواتها إذا لم يكن هذا الترتيب الطبيعي المنطقي واضحا؛ ففيم يختلف الإخوان إذن عن الوطني؟. الوطني هدفه الحكم ويفعل ما يريد ثم يأتي بمفاتي السلطان ليفتوه بأن هذا هو الإسلام؟ والإخوان أيضا استخدموا الإسلام للمشاركة في الحكم والوصول إليه ربما بمهارة أكبر. لكن أتت الأحداث لتكشف المواقف وتفصل الصحيح عن الرغوة، ونصر الله لمن ينصر دينه لا لمن يتخذه وسيلة للسلطان ]وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[(40/الحج).