في كلمته التي وجهها في الذكرى الخامسة لغزو العرق واحتلاله، عاد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للتأكيد مجدداً على صحة قراراته الخاصة بما سماه “استراتيجية الحرب على الإرهاب”، معتبراً أن احتلال العراق كان “انتصاراً بارزاً” لهذه الاستراتيجية. وكان نائبه ديك تشيني قد سبقه أثناء وجوده في بغداد مؤخراً إلى القول إن ما يجري في العراق اليوم “عمل ناجح”، وكلاهما رفض فكرة سحب القوات الأمريكية من العراق “بشكل متسرع”.
وبعيداً عن عناد بوش وإدارته، فإن الوقائع على الأرض والتي تمتلئ بها التقارير العسكرية والأمنية الأمريكية وغير الأمريكية، وشهادات كبار الجنرالات والمحللين الاستراتيجيين الأمريكيين وغير الأمريكيين، لا تقف إلى جانب هذا العناد بل كلها تؤكد أن “استراتيجية الحرب على الإرهاب” تبدو اليوم، وبعد سبع سنوات من تفعيلها، استراتيجية فاشلة تماماً من أفغانستان إلى العراق إلى المناطق الأخرى المستهدفة بها وصولاً إلى الداخل الأمريكي ذاته، وأنها لم تخلف إلا القتل والدمار وإثارة الفوضى والفتن، وقبل كل شيء ألحقت ضرراً كبيراً بأمن العالم، فضلاً عما ألحقته من ضرر بأمن الولاياتالمتحدة ذاتها وأكسبتها السمعة شديدة السوء وأدخلت اقتصادها في أزمة ركود لها ما بعدها على أمريكا والعالم.
لقد أضعفت استراتيجية بوش قوة أمريكا العسكرية وجعلت جيشها في “حالة من عدم التوازن” وغير قادر على مواجهة حرب جديدة، كما شهد بذلك جورج كيسي، رئيس أركان القوات البرية الأمريكية، أمام مجلس النواب الأمريكي معيداً السبب إلى حجم الوجود العسكري الأمريكي في العراق. ومثله ولنفس السبب، أكد الأدميرال مايكل ج. مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي قال: “هناك طاقات احتياطية في البحرية والقوات الجوية، ولكن ذلك لا ينطبق على القوات البرية”. وفي مؤتمر نظمه “مركز الأمن الأمريكي الجديد” يوم 18/2/2008 لمناسبة إصدار دراسة جديدة عن وضعية الجيش الأمريكي ومستقبله، قال الجنرال المتقاعد روبرت سكيل إن 90% من الضباط الأمريكيين “اعترفوا بأن الحرب على العراق قد أرهقت القوات المسلحة الأمريكية على نحو خطير”. وتشير الاستقالات المتتالية التي شملت أهم وأكبر المسؤولين عن تطبيق هذه الاستراتيجية، بدءاً من الجنرال ريكاردو سانشيز إلى الجنرال جون أبي زيد وصولاً إلى آخر القائمة حتى الآن: الأدميرال وليم فالون، قائد القيادة المركزية الأمريكية، إلى فشلها، عكس ما يؤكد بوش وتؤكد إدارته.
وينقلنا ذكر الأدميرال فالون إلى ميدان آخر في بانوراما فشل استراتيجية بوش، إلى أفغانستان. لقد عزي سبب استقالة فالون إلى عدم رضاه عن سياسة بوش وتوجهاته إزاء إيران، لكن الخبراء يعزون سبب الاستقالة إلى عدم رضاه عما يجري في أفغانستان، إذ يرى أن أمريكا ستخسر الحرب في هذا البلد بسبب السياسة المتبعة في العراق، حيث إن حجم القوات الأمريكية فيه منعت من إرسال قوة أكبر إلى أفغانستان ما سبب “التدهور” الحاصل في الثانية. وقد تأكد حسب مركز “سنيلس” الدولي أن حركة “طالبان” أصبحت منذ أشهر تسيطر على 54% من أفغانستان، ما دفع صحيفة “غارديان” البريطانية تتساءل عن موعد عودة “طالبان” إلى كابول! وقد زار وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس أفغانستان في أواسط يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، وخرج منها بنتيجة واضحة نقلتها عنه صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية تفيد بأن قوات “الناتو” لا تعرف كيف تقاتل “طالبان”، مضيفاً: “في رأيي يجب أن نعلمهم كيف يواجهون طالبان، وإذا لم يتغيروا فإنه يجب أن نبحث عن حل آخر”! لكن جيتس لم يقل ما هو الحل! إن الفشل في أفغانستان يبدو أكبر منه في العراق، وبعد زيارة قام بها إلى أفغانستان أنتوني كوردسمان، في مطلع ديسمبر/ كانون الأول ،2007 ويعتبر أحد أهم المحللين العسكريين الأمريكيين، أعلن أن الولاياتالمتحدة ستخسر الحرب في أفغانستان لا محالة إن لم تسارع إلى تدارك الوضع بزيادة ما ترسله من الأموال والجنود هناك. وفي تصريح لوسائل الإعلام قال: “نقولها بصراحة، إنه ليس في وسعنا خسارة حربين اثنتين في عام واحد”، والحرب الأولى التي قصدها هي الحرب في العراق، ولأن خسارتها مفروغ منها، في رأيه، أضاف قائلاً عن خسارة الحرب في أفغانستان: “وفي اعتقادي أن هذا هو الطريق الذي نسلكه الآن ما لم نسارع بدرء خسارة أخرى في أفغانستان”.
تلك هي النتائج التي أسفرت عنها “استراتيجية الحرب على الإرهاب” في أهم ميدانين لها، والتي تدل عليها الوقائع وتؤكدها التقارير والشهادات، نتائج فاشلة ومدمرة في الوقت نفسه. لكن ميادين أخرى لم تخصها إدارة بوش بالغزو والاحتلال بل تعاملت معها من خلال الاستراتيجية الفرعية: “الفوضى الخلاقة”، عبر إثارة الانقسامات السياسية والنزعات الطائفية والمذهبية، وتحريك الأعوان والعملاء، والتهديد والضغط السياسي والاقتصادي، وصولاً إلى العمليات العسكرية السريعة نسبياً كما كان الحال مع لبنان في يوليو/ تموز 2006 وقطاع غزة مطلع مارس/ آذار ،2008 ولم تكن نتائج الاستراتيجية الفرعية أفضل من نتائج الاستراتيجية الأساس.
والسؤال الذي يطرح في هذه الذكرى هو: لماذا التمسك باستراتيجية فاشلة؟ والجواب معلن، وستعلنه دائماً كل إدارة أمريكية تطمح للسيطرة على العالم، وهو بسيط جداً: لأن المصالح الامبريالية الأمريكية تحتاج إلى هذه الاستراتيجية أو مثيلاتها، والتمسك بها هو الذي يثير الشعوب ضد أمريكا التي ستضع، عاجلاً أو آجلاً، حداً لهذا الطموح الامبريالي الامبراطوري، كما وضعت نهاية للامبراطوريات السابقة.