استمرار المظاهرات.. العصيان المدني المتدحرج.. مقاطعة منتجات الجيش ورجال أعمال مبارك.. مقاطعة قنوات الفتنة.. الامتناع عن سداد الفواتير الحكومية.. كل تلك الفاعليات ضرورية وهامة ومؤثرة.. لكن يبدو لي أنها لن تؤدي إلى سقوط حكم العسكر والفلول في المدى المنظور.. لأن العصيان المدني لن يكون كاملا لذلك لن يؤدي إلى نتيجة سريعة، وباستطاعتهم التأقلم مع باقي الظروف مهما تدهورت أوضاع البلاد.. لا يوجد في التاريخ ولا في الواقع شيء اسمه ثورة سلمية.. الثورة بطبيعتهاعمل عنيف.. ولكن هناك درجات من العنف.. والسلمية التامة لا تؤدي إلى نتيجة.. ولو أدت فسيكون ذلك بعد عشرات السنين.. وخلال هذه السنوات ستضمحل القوة الدافعة وينتهي الأمر.. ما حدث في تونس ومصر واليمن هو احتجاجات سلمية أدت إلى سقوط رأس الدولة.. وما حدث في ليبيا وسوريا هو ثورة على النظام الحاكم.. لذلك ستكون ليبيا وسوريا أنجح بلدان الربيع العربي.. حيث سيتخلصون تماما من النظام الحاكم الغاشم.. والنجاح المؤقت الذي حدث في مصر في يناير 2011 كان نتيجة مباشرة لتحطم الأمن المركزي وانهيار جهاز الشرطة.. وطبعا لم يحدث ذلك بالسلمية.. نعم بدأت المظاهرات سلمية ولكن سرعان ما انضمت إليها جحافل الشعب الحانق على الشرطة والممارسات الأمنية.. هذه الجحافل أحرقت أقسام الشرطة واكتسحت قوات الأمن المركزي على الأرض يوم 28 يناير 2011 .. هم يتهمون الإخوان بذلك.. وهذا قد يفسر القتل الوحشي للإخوان عند فض الاعتصامين.. وقد يفسر حرق الجرحى وجثامين الشهداء وقد يفسر حصار المساجد وإحراقها.. ولكني كنت شاهد عيان وعلى يقين تام أن اندحار الشرطة يوم 28 يناير كان على يد جحافل الشعب الغاضب وليس الإخوان.. ولكن رجال الشرطة لا يتخيلون أن الشعب الذليل المهان الذي طالما استعبدوه فلم يتململ من العبودية يمكن أن يثور ويفعل بهم ما فعل.. لذلك اتهموا الإخوان.. فهم على الأقل تنظيم دولي.. وإرهابي (من وجهة نظرهم) فليس عارا شديدا أن يفعل بهم ما فُعل.. لذلك فالشعب المصري هو البطل الحقيقي لثورة يناير وهو قائدها الوحيد.. فالشباب (الطاهر النبيل) الذي دعا لتظاهرات سلمية كان يقدم الزهور لرجال الشرطة ظهيرة 28 يناير.. بينما كان لجحافل الشعب وجهة نظر مختلفة.. ورغم ذلك ليس أمام كل القوى السياسية الرافضة للانقلاب سوى الالتزام التام بسلمية الاحتجاجات مهما كان العنف الوحشي للدولة.. وليس هذا ضعفا ولا خورا ولا حتى حكما شرعيا.. ولكن هذه السلمية هي السبيل الوحيد للحفاظ على كيان الدولة من الاضمحلال والتقسيم.. والحفاظ على الجيش من التمزق والانهيار.. فالحرب الأهلية وحرب العصابات كفيلة بتدمير أقوى جيوش العالم.. والشواهد القديمة والحديثة لا حصر لها.. ولكن هذه الدولة دولتنا.. وهذا الجيش جيشنا.. ويجب أن ندحر الانقلابيين دون أن نحطم دولتنا أو ندمر جيشنا.. سمعت الدكتور محمد الجوادي منذ عدة أيام يقول أن للقوة سقف وللضعف سقف.. مشيرا إلى أن الانقلابيين قد بلغوا سقف استعمال القوة ولن يمكنهم ارتكاب مزيد من المجازر.. ورغم اعجابي بتحليلات الدكتور الجوادي إلا أني أخالفه في هذا الرأي.. فهؤلاء الانقلابيون ليس لديهم سقف للقتل والتنكيل.. ويمكنهم منافسة بشار الأسد في أعداد الضحايا والمعتقلين والمُعذبين.. ليس فقط لوحشيتهم وساديتهم الفطرية.. ولكن أيضا لأنهم مضطرون إلى ذلك اضطرارا.. فبعد ما ارتكبوه ليس أمامهم إلا الاستمرار في الحكم بأي وسيلة مهما تكن بشعة وذلك حفاظا على رقابهم.. فليس أمامهم بديل عن الاستمرار في السلطة إلا مواجهة المحاكم والمشانق.. وليس هناك أي خيار آخر.. حتى الهروب من البلاد ليس خيارا مطروحا.. لأن المحاكم الدولية ستلاحقهم وتأتي بهم حتما.. لذلك لن تفلح أي حلول وسط ولن تفلح أي مفاوضات ولا وساطات ولا مصالحات.. ولن يتحقق اسقاط الانقلاب من وجهة نظري إلا باستمرار الاحتجاجات السلمية مما سيهيئ لجموع الشعب الظروف الملائمة لابتكار إبداعاته الثورية الغير معروفة والغير متوقعة.. فالاحتجاجات السلمية المنظمة لن تسقط النظام.. ولكن انحياز الجماهير الشعبية للثورة سيكون هو العامل الحاسم.. ولن يمنح الله الحرية والكرامة إلا للشعوب التي تستحقها.. "كما تكونوا يولى عليكم".. وعند الله تجتمع الخصوم.