تميزت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية الى الكويت بالحميمية التلقائية المعبرة عن تكامل المصالح وتلاقي الاستراتيجيات ووحدة الأولويات التي تشغل البلدين، وأشعر شخصيا بالارتياح في متابعة خطوات الرئيس المصري في رسم النظام الجديد الذي يريد صياغته لمستقبل بلده، وأعتقد أنه قرأ كثيرا عن مسببات معاناة مصر ورسم سياسته الحالية على أساس الابتعاد عن هذه المسببات التي استنزفت طاقاتها وهدرت مواردها وشتت أبناءها، وأحس بأن النظام المصري القادم يقترب كثيرا من الصيغة الخليجية في الاقتصاد والانفتاح وتأكيد الأمن الاستثماري وتسويقه بمعنى تبني فلسفة الليبرالية الاقتصادية في تعزيز القطاع الخاص واستقبال الأموال والتوسع في الترابط مع المجموعات الاقتصادية العالمية، والتناغم مع المنظمات المالية والتجارية مثل صندوق النقد والبنك الدولي والامتثال لشروط منظمة التجارة العالمية. الرئيس السيسي يسعى لبناء مصر وفق منظور اقتصادي مصالحي لا تتدخل الأيديولوجيات فيه ولا تعرقله تنظير الاشتراكية ويعمل على ترسيخ التوازن في البحث عن العدالة الاجتماعية ويرصد حاجة مصر الى الترابط العلمي والتكنولوجي مع فتح الأبواب للتحاور الحضاري والاقتباس وايفاد البعثات وازالة العراقيل والموصدات التي تعرقل التعليم وتعطل تحديثه، مع ضرورة تشييد الجسور المفتوحة مع العالم. أتصور عنده الكثير ليضيفه في الجانب الاستراتيجي السياسي فلا شك أن خبرات مصر ومواردها ذهبت في استنزافات ومعارك داخل البلد وخارجه وتشكلت بسببها خصومات وتباعدات وتبادلية في التهم وتضخمت أذرعة المخابرات في الداخل وفي الخارج مع تضييق على الذين لهم رأي آخر في الداخل، كما ساهمت في تخريب العلاقات العربية - العربية. واضح أن الرئيس لا يؤمن بالقرارات التي تستخرجها الخطب السياسية الكاريزماتية من بالكونات محشوة بميكروفونات وسط حشد من الاتباع، وتشدو بخطوات أوهام كارثية لا يمكن ان تصدر من حكم يفكر ويحسب قبل ان يقرر. كما يدرك الرئيس أن العلاج للوضع المتردي يوجد في التآخي العربي القائم عبر تبادلية المصالح والاحترام وعدم التدخل وازالة المعوقات في التجارة والاستثمار والتعاون في مجالات التكنولوجيا والتحديث، وقد لفت نظري ما جاء في لقائه مع الصحافيين الكويتيين بأن مصر لا تسعى الى قيادة أو زعامة لكنها توجه رسالة الى العالم بأن مصر الدولة والمكانة قد عادت وتحتاج الى التحرك مع الأشقاء في الكويت وغيرها من دول المنطقة التي سيزورها الرئيس خلال أيام. ومن الطبيعي ان تدعم دول الخليج نظام السيسي وتوجهاته نحو العودة الى مصر المطمئنة والمكافحة للخروج من أثقال الماضي، وأجد في حديثه نقاوة مصرية تذكر الجميع بالنقاوة والتلقائية التي كان يتحدث بها مصطفى النحاس باشا، فلا يبتغى سوى ارتفاع مقام مصر واعتزاز مكانتها مع تآخ عربي حميم، وترابط عالمي مفيد. وأعجبني الرئيس السيسي الفاهم بما يهدد المنطقة من ارهاب عابر للمحيطات وجيوشه من بشر متنوع المشارب باحثا عن تدمير أوطان ومؤسسات وحدود، ويحذر الاعلاميين الكويتيين وغيرهم وشعب الكويت بأن يحرص على سلامة الوطن ويحافظ على استقلال وأمن بلده، مثمنا رصيد الكويت وخزينتها السياسية والاقتصادية ودينميكية مجتمعها. كما أعجبني رده حول علاقات مصر مع مجلس التعاون عندما قال نحن مع دول مجلس التعاون بغير انضمام وبارادتنا نتابع مع بعض، نحمي بعضنا بعض، ونخلي بالنا من بعض، هذه كلمات تترجم اليقين بالترابط الواحد في المصالح وفي الحياة السياسية والأمنية بكل جوانبها. وفي الحقيقة ان علاقات مجلس التعاون مع مصر كانت أولويات الرئيس السابق حسني مبارك الذي استقبلني عندما كنت أمينا عام لمجلس التعاون في سنة 1992، بعد تحرير الكويت من الغزو، وأصر على تأكيد التشابك الأمني بين مصر ودول الخليج، وحدثني كثيرا عن الدسائس التي كان يديرها قادة مجلس التعاون العربي، ويتجنون فيها على قادة الخليج، كما ارتبط الرئيس حسني مبارك بعلاقات مودة واطمئنان مع قيادة المنطقة وشعبها، كل ذلك من اقتناع بأن الثقل الخليجي والامكانات المصرية تشكل القاعدة المستقبلية للعلاقات العربية الجماعية الصافية. ولم يتحقق ذلك بسبب وجود أنظمة شاذة في راديكاليتها وبطلجية في آلياتها وجاهلة في توجهاتها، وجودها في الجامعة العربية عرقل العمل العربي المشترك، أبرزها نظام صدام حسين في بغداد والقذافي في ليبيا وعلي صالح في اليمن وبشار في سورية، كلها أتقنت فنون الارهاب وكلها وسخت تاريخ شعوبها، وكلها خلفت الدمار والخراب لمواطنيها، وأهانت كرامتهم ودمرت أحلامهم، ومن العار ان تشغل هذه الأنظمة ومعها نظام البشير مقعدا رسميا في الجامعة العربية وتتحدث كأنها شرعية المولد وملائكية التصرف. ومع كل ذلك نتطلع الى آفاق مستقبلية مستنيرة في ترابط خليجي – مصري يؤسس للنظام العربي القادم الذي يجب ان يقوم على أسس متفق عليها عربيا ومنسجمة مع القواعد التي يلتزم بها المجتمع العالمي. لم يكن معقولا ولا مقبولا ان يكون نظام صدام عضوا في الجامعة العربية أو نظام القذافي بعد العدوان والمؤامرات، ولهذا فان ضرورات العمل العربي المشترك المستقبلي يجب ان تؤسس على ما يلي: أولا: لا مكان لأنظمة تأتي عن طريق الانقلابات العسكرية، فالجامعة العربية غير الأممالمتحدة، الجامعة هي بيت العرب المدافع عن الشرعية والملتزم بالقانون والراعي للحكم المدني، والمؤمن بالحريات وشرعية الاختيار الحر من قبل الشعوب، ويجب ألا يسمح بأن يدخل هذا البيت من جاء بانقلاب من تآمر وخداع من قبل مجموعة قليلة تبحث عن الفرص لتحتل اذاعات وتلفزيون وتطبل بالاناشيد وتتحول الى أنظمة ارهاب لأنها جاءت من بطن التآمر والارهاب. ثانيا: ان تكون العلاقات بين الدول داخل الجامعة، كما وصفها الرئيس السيسي، قائمة على الاحترام وعدم التدخل والندية وتبادلية المنافع والايمان بالقيم الانسانية وأدبيات السلوك المتحضر وتقدير المواقف وتفهم الاختلاف. ثالثا: ان تفتح أبواب التجارة في انسياب تام بين الدول العربية في الالتزام بحرية التجارة وترابطها مع قوانين منظمة التجارة العالمية، والانفتاح التام في ممارسة الاستثمارات بين الدول العربية في حق المستثمر في الخروج الآمن. وقد وعد رئيس مصر باصدار قانون الاستثمار الجديد، لكن المشكلة لا تزول في اصدار القانون وانما في خلق بيئة مرحبة بالاستثمار ومؤمنة بفوائده وهذا يتطلب التوجيه الاعلامي نحو الاستثمار والتثقيف بالمكاسب التي يجنيها المجتمع من الوجود الاستثماري الذي يخلق أسواقا ويأتي بالتكنولوجيا والتدريب والادارة والتداخل مع المستحدثات العالمية. رابعا: يقول الرئيس ان أمن الخليج العربي خط أحمر ويوازي أمن مصر مع ضرورة ترسيخ العمل العربي وازالة الخلافات التي تعكر صفو العلاقات العربية – العربية. ونذكر هنا بأن تلاقي مصر ومجلس التعاون والأردن يؤسس البنية المستقبلية للنظام العربي الجديد الذي نريده، وعلينا الاعتراف بأن دول شمال أفريقيا لها ملفات خاصة تتعامل معها بآليات الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومؤسسات الأممالمتحدة، وستنضم بلا شك الى الركب المحرك المشرقي، ونظرا لموقع مصر الجغرافي ولمكانتها التاريخية، فمن المنتظر ان تكون القوة المحركة للتوصل الى تفاهم مشترك لانضمام دول شمال أفريقيا الى العهد السياسي والفكري والاستراتيجي الجديد الذي ستبنى على أساسه مداولات الجامعة العربية. أنا من المؤيدين لمبادرة المجموعة الكويتية لتشكيل مجلس العلاقات المصرية – الكويتية، الذي أعلن عنه وتزامنت ولادته مع زيارة الضيف الكريم، وآمل ان يضع المسؤولون فيه الأهداف التي يسعى لها وأن تكون خلاصتها ترسيخ العلاقات ضمن اطار يتميز بالاستنارة والانفتاح الفكري والسياسي بحيث يعلو صوت المجلس دفاعا عن آدمية الانسان، ويصرخ للعدالة ويستغيث لنجدة الديموقراطية وحق التعبير في القول وفي الممارسة السياسية، ويبتعد عن التبجيل والثناء ولا يدخل في محور التطبيل للرئاسة والتفاخر بأهليتها، وينثر بذور لفرعونية قادمة. ترتفع مصر بالطاقات التي تملكها وهي كثيرة، وبالقوة الناعمة التي لديها وهي غزيرة، على ان تنطلق بحرية وتنفك من القيود الثقيلة التي سجنتها خلال سبعين سنة. ونستعين في ذلك بنقاوة مشاعر الوطنية المتدفقة التي يحملها الرئيس.. نقلا عن صحيفة الوطن الكويتية