بدأت اليوم القمة العربية التي تحتضنها الكويت لأول مرة، وهي القمة الدورية التي تلف العواصف العربية، لكنها هذه المرة تحط في الكويت في مناخ غير عادي وملائم للانطلاق في بناء علاقات عربية قائمة على المسؤولية الناضجة، وعلى البحث عن الايجابيات المثمرة في الترابط العربي، فقد ولى زمن الزعامات المشاغبة والأباليس من زعماء العرب الذين يعيشون على الشعارات وينعمون بالتلميع الاعلامي لقياداتهم وممارسة التعتيم في وضع ستائر على أعين شعوبهم تعطي الحقائق التي يعرفها العالم ولا تدري عنها شعوبهم. ولى زمن القذافي بعنجهيته الجاهلة التي ترافقه وتعاليه على زعماء كبار لهم تاريخهم وانجازاتهم، ويشهد النظام البعثي السوري آخر معارك البقاء مهما كانت ادعاءات المؤيدين، وتم دفن صدام حسين بنظامه وكتيبته من الثوريين الجهلاء، وانحسرت مدارس الشعارات وزعامات الخطب الزنانة في ميادين تتراقص معها شعوب محبطة باحثة عن أمل لعلها تجده وسط هذه الهرجلة الخطابية الميدانية المثيرة. يعود العالم العربي، بكل قناعاته في اشواق الى مدارس الاعتدال والى الزعامة التي تحكم بالقيم وتعتز بحقوق البشر وتتعب من اجل فقراء القوم، وسبحان الله، صارت العودة الى مدارس سعد زغلول ورمزيتها، والى اجواء النحاس باشا وعقلانيتها، هي المشروع المستقبلي في العلاقات العربية. كاد الموت ينهي حياة الجامعة العربية مع اندلاع الحرب الباردة بين الثوريين والمحافظين من العرب في نهاية الخمسينيات، واستمرت كارثة 1967، وشهدت شخصياً في تلك الفترة اجتماعات الجامعة العربية الباهتة التي طغت عليها مشاعر الحذر والخوف وغياب الثقة، والأهم عدم القناعة بما تحتوية مسودة القرارات لانها ليست وليدة قناعة وايمان وانما مجاملات حتى لا يتهم اي طرف بأنه أغرق الزورق الحامل للوفود. كل ذلك يعود الى عدم التزام الدول ولا سيما الثوريين الذين جاءوا بمشروع الاحلام بتغيير النظام العربي السياسي، في تحد فاضح للمادة الثامنة من ميثاق الجامعة التي تتعامل على (احترام كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة لنظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقائق من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي الى تغير ذلك النظام). هذا نص المادة الثامنة، والتي أرادت المدرسة الناصرية ان تضع لها بديلاً في فرض نظام موحد للسياسة الخارجية على جميع الدول العربية وان ترتبط أمنيا وعسكرياً عبر استراتيجية دفاعية موحدة. هذه أحلام، فلا يمكن توحيد السياسات الخارجية في منظمات، ولا يمكن وضع استراتيجية دفاعية يلتقي عليها الجميع. هذه تجربة عشتها شخصيا في الأممالمتحدة وفي مجلس التعاون، رغم تلاقي المصالح والمرئيات بين دول الخليج. شن الثوريون العرب حملات على من لا يريد الانضمام إلى مدرستهم، ونعتوا المعارضين بالتلوث الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وعندما انكشفت الأمور في كارثة 1967، جاء هؤلاء الملوثون لإنقاذ ما تبقى من صورة زعامات عربية طيبة في نواياها فقيرة في ثقافتها جاهلة في تقديراتها ومغامرة في خطواتها. تخلصت العلاقات العربية من المبشرين الصغار واقتربت الدول العربية من الضوابط التي تتحكم في المجتمع الدولي، وتعمل على هضم قيم ومبادئ يلتزم بها العالم ويعتبرها الثوريون العرب آفة قاتلة، لاسيما حق الشعوب في الحرية القائمة على حكم دستوري راشد يلتزم بالديموقراطية والشفافية والمحاسبة. ويمكن أن تكون قمة الكويت هي قمة الانعتاق والانطلاق نحو نظام عربي مؤسس على المبادئ التي جسدها ميثاق الجامعة الموقع عليه في مارس 1945، مع إضافات عصرية حول حقوق الإنسان والمحاسبة للنظام الذي يتخلى عن ميثاق الشرف الحديث، وبما ينسجم مع قرار الجمعية العام في عام 2005، حول مسؤولية المجتمع الدولي في حماية الإنسان وحقوقه. قمة الانطلاق هي العمل العربي الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وأول الشروط المتوقعة لنجاح القمة هي تبني فلسفات الانفتاح الاقتصادي بحقوق واضحة وموثقة لكل الأطراف، فالمستثمر يعرف، مقدما، بأنه قادر على استرجاع حقوقه وضامن لأمواله، ومن يريد الانسياب التجاري عليه أن يقبل معاني الانفتاح دون حواجز جمركية ظاهرها الحماية وجوهرها تفريغ الاتفاق من معانيه. ولكي تنجح القمة أتمنى الابتعاد عن قضايا الأمن والسياسات الخارجية، هذه قضايا تتحكم بها قناعات الدول ومواقعها الجغرافية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، ولعل التركيز على التجارة والاقتصاد والتبادل التكنولوجي والتعليم والثقافة، وحماية المنطقة من التقلبات البيئية والمناخية، أبلغ كثيراً من الجري نحو المعقد والصعب. وأعتقد بأن قيادات الدول العربية واعية لصعوبة التوافق على قضايا تحمل تفسيرات مختلفة، فلا مصلحة في البحث عن اتفاق حول وضع «الاخوان» كجماعة ارهابية، ولا مصلحة في المزايدة على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي يجب أن تدعم القمة مساعيه في اتخاذ القرارات الصعبة التي يتوجس منها ويتخوف من اسقاطاتها، ولا يجرؤ على الاعلان عن موقفه منها دون دعم عربي قوي. وما علينا من بقايا المتطرفين المزايدين من العرب في بعض الدول العربية، فلم تعد البيئة العالمية تتقبل اطروحاتهم. ولا اشك بأن الرئيس ابومازن يدرك بان الفرصة المناسبة لا تتكرر، وان ما كان ممكنا بالامس، يظل في احلام اليوم، وانه دارس لتاريخ قضيته جيدا وعارف بالفرص الضائعة، التي قدمت لمن سبقه، وضاعت من فلسفة «لعم» كما يريدها زعماء المنظمات الفلسطينية التي هي عناوين للعجز والتلاشي. ومع سورية فلا امل من بقاء نظام الاسد، ولابد من موقف عربي موحد يقول إن الحفاظ على سورية الصرح والكيان والمؤسسات مسؤولية عربية لا يمكن ان يتمتع بشار الاسد في استلطاف مناظر النيران تشتعل بتراث عربي - اسلامي - انساني في تلك البقعة التاريخية من الكرة الارضية. تبقى امور لابد من تقديرها عند البحث في العلاقات العربية وهي حرص دول على السيادة وعدم التفريط فيها، وهي حقائق يجسدها ميثاق الاممالمتحدة الذي يبشر الجميع بأن الاعضاء متساوون في السيادة، لا يوجد كبير او صغير، وان كل دولة لها صوت واحد، لكن المساواة ليست في النفوذ وانما في الحساسية على السيادة. العاجل في الجامعة العربية الآن ان تبدأ بالواقع الجديد الذي يتأسس على شواطئنا في الخليج، في نظام عربي جديد مرتبط ارتباطا وثيقا بالعالم لاسيما عالم المعرفة والابتكار والانفتاح على ابواب العلم والتكنولوجيا، والانسجام مع انضباطات العولمة في حرية الاقوال ونضج الافعال، وحسن القيادة، والدخول في علاقات مع التكتلات العالمية، مثل الاتحاد الاوروبي. ونقول بكل صراحة إن العالم العربي بشكل عام خسر الكثير بسبب الجدار العازل الذي شيده الثوريون العرب في دولهم ضد الارتباط والاستفادة من المؤسسات الغربية في اوروبا والولايات المتحدة. وصار هذا الارتباط شعارا عدائيا ضد المعرفة والاقتباس وتقييد البعثات الى الخارج وتحوير التعليم ليشكل قنوات تعمل لصالح النظام بالدعاية له وتخريج كتائب من المؤيدين، وليس مواطنين عارفين وصالحين، وتشويه التاريخ مع ممارسة عمليات تلويثية ضد شخصيات تاريخية لم يسلم منها الملك فيصل الاول، ولم ينجو منها النحاس باشا ولا اسياد الفكر والفلسفة في مصر. ولا يفوتني في هذه الفرصة لأشير الى ان رئيس جهاز الجامعة عاش في الاممالمتحدة له ادراك بضرورات الانطلاق بفتح الابواب والترابط مع حقائق العالم، الاخ نبيل العربي، الامين العام للجامعة، عارف بأن ضرورات الزعامة ان تقف على ما يدور في عالم اليوم، وان الزعامة الجاهلة والمغلقة تورط شعوبها وتقع في شبكة الجهل. واكبر مثال نظام البعث السوري - صلاح جديد وجماعته - بتوريط مصر في خداع الحشودات في مايو 1967، التي انكرتها البعثة العسكرية المصرية التي تفقدت المواقع، وكان المصير مهلكا لاسيما للقيادة المصرية. هذه عبر تاريخية لا تفوت على من يؤسس لنظام عربي جديد، لعل هذا النظام المطلوب ان يخرج من شواطئ الخير في بحر الخليج.