خطوة غريبة حقاً ومثيرة للتساؤل تلك التى أقدم عليها المجلس العسكرى باستطلاع الرأى الذى أجراه أخيراً، ليس على قرار أصدره أو سيصدره، وإنما على انتخابات الرئاسة التى من المفترض حتى الآن أنه ليس له مرشح فيها وأنه من موقعه الانتقالى الحالى يقف على الحياد من جميع من سيخوضونها. لقد صدرت عن المجلس تصريحات كثيرة تعبر عن قدر كبير من المسؤولية فى اتجاه التأكيد على أن المجلس يرتفع فوق الجدل السياسى الذى هو من طبيعة الفرقاء السياسيين، فقضايا التنافس السياسى لا تتفق مع الحيادية التى أكدها المجلس أكثر من مرة حين قال مثلاً إنه يقف على نفس المسافة من جميع الاتجاهات السياسية، من هنا فإن الخوض فى مسألة شعبية المرشحين «وغير المرشحين!!» لانتخابات الرئاسة هو دخول غير مسبوق إلى قلب المعترك السياسى ينبغى على المجلس أن يفسره لنا كى نعرف لماذا تخلى عن موقعه الحيادى وخاض فى مسألة التفضيلات بين المرشحين، وبهذا الشكل المضلل وغير العلمى. إن استطلاعات الرأى لها أصولها العلمية وجهاتها المتخصصة وإلا لأمكن لأى جهة أن تقوم بها بالطريقة التى تلائمها، فتأتى بنتائج قد تكون مثيرة، لكنها لا تعبر عن الواقع من قريب أو بعيد، وأولى القواعد العلمية التى تحكم استطلاع الرأى هى تطبيق القواعد التى تضمن أن تجىء العينة المختارة معبرة وممثلة للرأى العام، وهذا لا يتأتى على الإطلاق من حصر وسيلة استطلاع الرأى فى مجال واحد كأن يكون ال«فيس بوك»، إن الجهات المتخصصة التى قامت باستطلاعات الرأى فى الفترة الأخيرة تعمل على تنوع العينة المختارة حتى لا تنحصر فى فئة مستخدمى ال«فيس بوك» وحدهم، كما تحرص على تنوع وسيلة الحصول على الرأى، حيث قد تلجأ مثلاً إلى المساءلة الشخصية لبعض من تستطلع رأيهم إذا كانوا ممن لا يجيدون القراءة والكتابة، فهل قام المجلس العسكرى بمثل ذلك؟ لقد كان من الممكن للمجلس أن يلجأ إلى أحد المراكز المتخصصة فى استطلاعات الرأى لتكليفه بهذا الموضوع أو على الأقل للاستعانة بخبرته فى إجراء الاستطلاع. لقد جاءت نتيجة استطلاع المجلس العسكرى مغايرة تماماً لجميع استطلاعات الرأى التى أجرتها الجهات المتخصصة سواء المحلية منها أو الدولية، وآخرها ذلك الاستطلاع الذى أجراه واحد من أكبر مراكز استطلاع الرأى الدولية، وهو المعهد الدولى للسلام، ومقره نيويورك الذى أثبت - حسب ما نشرت «الأهرام» أمس الأول - أن عمرو موسى هو الذى يتصدر قائمة المرشحين للرئاسة حيث حاز على 44٪ من الأصوات بينما حصل الدكتور محمد البرادعى على 2٪ فقط من الأصوات، وهو عكس ما جاء فى استطلاع المجلس العسكرى، والغرض هنا ليس المفاضلة ما بين عمرو موسى والبرادعى وإنما بيان التضارب الصارخ بين ما تجريه الجهات المتخصصة من استطلاعات، وترك صفحة مفتوحة على ال«فيس بوك» لمن يختار أن يدلى برأيه فى الموضوع، ففى الحالة الأولى يتم اختيار العينة على أسس علمية معروفة، بينما فى الحالة الثانية تقوم العينة باختيار نفسها بشكل عشوائى، ويمكن لمن يدلى برأيه فيها أن يفعل ذلك أكثر من مرة، بل يمكن حتى لمن ليس له حق التصويت أن يدلى برأيه. على أن السؤال الذى أثاره كل من تحدث إلىّ فى هذا الموضوع منذ طلع علينا ذلك الاستطلاع الذى أتى بنتائج لم يأت بها أى استطلاع رأى سابق هو: لماذا اختار المجلس العسكرى أن يخوض فى هذا الموضوع الآن؟ البعض قال إنه سوء تقدير من المجلس الذى كان ينبغى أن ينأى بنفسه عن دخول معترك التنافس السياسى بين المرشحين، والبعض الآخر قال إنه محاولة لتحويل اهتمام الناس من الجدل المحتدم الآن حول أولوية وضع الدستور قبل الانتخابات، وهو ما يقال إن المجلس لا يريده وإن ذلك لم يكن ليتحقق إلا بالإعلان عن نتائج مثيرة وغير متوقعة لاستطلاع الرأى مهما كانت مضللة وغير ممثلة للواقع الفعلى. وإن كانت هناك فائدة لهذا الاستطلاع غير العلمى فهى أنه يثبت للجميع ذلك الفرق الصارخ بين مجتمع ال«فيس بوك» والواقع الفعلى فى الشارع، وهو فارق كان المجلس العسكرى أكثر من يدركه حيث كان قد أجرى استطلاعاً مماثلاً على التعديلات الدستورية قبل الاستفتاء فرُفضت بالكامل، لكنها حين طُرحت للاستفتاء فى الشارع وافق عليها 77٪ من الشعب. أما البعض الأكثر تشككاً فقد تساءل: ما الذى جعل المجلس العسكرى يجرى استطلاعاً للرأى حول العسكريين من ممثلى النظام السابق، وهما الفريق أحمد شفيق والسيد عمر سليمان، اللذان لم يعلن أى منهما عن ترشحه لرئاسة الجمهورية «!!». وأنا لا أشك لحظة فى انحياز المجلس العسكرى للثورة ومبادئها لكنى أقول إن دخول هذا المجال لم يكن يليق بالمجلس الذى ننظر إليه جميعاً على أنه فوق الخوض فى تنافس الفرقاء السياسيين، لا يدخل مجالهم ولا يخوض فيه باستطلاع رأى مضلل يفتقر إلى أبسط القواعد العلمية لأن ذلك سيفتح الباب للقيل والقال بما لا نرضاه للمجلس. نقلا عن جرية المصري اليوم