عام 2010 حصاده قليل "29 فيلما" مقارنة بمواسم سينمائية عرفت الوفرة وغزارة الانتاج.. هذا القليل يمدنا ببعض أسباب التفاؤل ويفتح شقا في جدران العتمة والبلادة الفكرية. رحل العام بما فيه من أثقال وأوجاع ومرارة طالت كل مظاهر الحياة بل لعله العام الذي تميز أكثر من سابقيه برائحته النفاذة التي تصيب الحواس! ومع ذلك تبقي المحاولات الشابة التي تكسر النمط المعتاد في مجال الترفيه والانتاج السينمائي وتلقي بحجر في خضم هذا الوخم الذهني والانحطاط الذوقي والحضاري والثقافي. تجارب تمد الجسور بين الشاشة الكبيرة الشاشة الصغيرة بين شرائط اللهو الخالي من أي هم اجتماعي أو فكري أو بين الشرائط الإخبارية المصورة التي تعكس أحداث وحوادث الواقع الفعلي المتسارعة والمزلزلة. في ذهني الآن تجربة داود عبدالسيد المخرج العجوز الشاب "رسائل البحر" بأبعادها الجمالية والفكرية وهدوئها العاصف المحرك للانفعالات العقلية والروحية لتلال من الشجن والحنين. وتجربة محمد أمين "بنتين من مصر" بنماذجها المختارة من بين بنات المدينة ومن أسرها البسيطة التي دفعت فواتير الفساد النافذ حتي النخاع ومن دون أن تسهم فيه أو يكون لأبنائها الذين اغتربوا ثم حين قرروا العودة نهشت أسماك القرش أجسادهم قبل أن يرسوا علي ضفاف الوطن.. بالاغتراب في الوطن أقسي أنواع الغربة وقد عانت بنات مصر وأبناؤها من تحرش الوطن ذلك لأن التحرش أنواع وليس أخطرها التحرش الجنسي لكن كلها أوجاع وما أشد قسوتها. أيضا تجربة "هليوبوليس" للمخرج أحمد عبدالله التي تنعي حيا كان ذات يوم راقيا قبل أن يتحول جزء كبير منه الي قطعة أخري عشوائية تحمل شواهد قائمة مازالت علي عصور كانت أكثر انسانية وتحضرا تجربة هليوبوليس تنبض بالتحدي وبالقدرة التعبيرية غير المعتادة علي صنع عمل مختلف بأسلوب مختلف لكنه ليس مختلفا في نوع الهموم ولا هي غريبة تلك النماذج البشرية التي سكنت العمارات العتيقة البديعة ولا تلك التي قررت الهجرة حين ضاقت فرص الحياة. هليوبوليس يمنح العشوائية بعدا آخر ذلك لأن العشوائية ايضا أنواع ورتب. في الموسم السينمائي 2010 بدأت ملامح ما يسمي بالسينما المستقلة تتبلور وتبدو كنهير صغير يتم حفره عبر طرق لا تؤدي الي المحتكرين الكبار لصناعة السينما في مصر وانما عبر اجتهادات من يبحث عن نقطة ضوء تبدد اليأس وأساليب تعتمد في الأساس علي الثقة بالنفس والإرادة فخرجت تجارب مثل الحاوي ابراهيم البطوط الذي تقدم الركب الجديد بفيلمين ايتاكي وعين شمس وميكروفون احمد عبدالله وهي التجربة الثانية بعد هليوبوليس وبصرة احمد رشوان الي جانب تجارب سينمائية مختلفة علي هامش التيار الرئيسي مثل تلك الأيام احمد غانم والكبار وولد وبنت كريم العدل. *** مخرج يصارع الهوس الجنسي والديني والكروي فيلم محمد دياب 876 الذي جاء في نهاية موسم 2010 وبداية 2011 أشبه بجبال النور التعاليق الملونة التي تعلن وجود فرح علي مسرح السينما الشابة. المخرج الشاب يقدم فيلمه الأول علي مستوي الاخراج والخامس علي مستوي التأليف وكتابة السيناريو وبإرادة ووعي كاملين يشحذ الكاميرا ويصوبها ضد ظواهر المجتمع ويعريها ويوجه اليها سهاماً توقظ الوعي الجمعي وتحرك الهمة النائمة من أجل التصدي لظاهرة التحرش الجنسي التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة. محمد دياب وهو في مقتبل العمر يقرر النزول بفيلمه الي المجتمع بدم حام ليقدم عملا فنيا تحريضيا عن ثلاث نساء يتعرضن للتحرش. في بداية الفيلم وقبل أن يقدم بطلاته يسمعنا أولا صوت الرجل عبر أغنية شعبية داخل اتوبيس تجسد المفهوم الاجتماعي المتخلف والشائع عن الحريم والتفسير الخاطيء للدين عن ماهية المرأة. الأغنية تقول خد بالك من صنف الحريم فيهم ربع ضارب.. الخ الأغنية التي تكرس صورة ناقصات عقل ودين. وعند تقديم بطلته الرئيسية فايزة بشري لأول مرة جعلنا نراها داخل ادارة في الشهر العقاري مشحونة بالموظفات وفيهن عوانس يعملن أمام زحمة من عامة الشعب تسعي الي تخليص مصالحها في ظروف محرومة من النظام والنظافة والمكان المناسب. زميلة فايزة تترك عملها بدري علشان تلحق تدور علي عريس في إشار ساخرة الي ظاهرة أخري تعيسة وأعني ظاهرة العنوسة التي شغلت بدورها مساحات اعلامية للثرثرة حولها. انها هي نفس الزميلة التي نراها لاحقا في سياق الفيلم محشورة داخل اتوبيس تتعرض للتحرش دون غضب أو رد فعل. وفي موقع آخر من الفيلم يصور المخرج بحساسية ووعي اجتماعي حاضر طابور الموظفين أثناء قبض مرتباتهم وحين يأتي الدور علي فايزة تعد ما تبقي لها من الراتب بعد الخصومات فنلمح حجم المعاناة وقسوة الحصار المادي ونحن نعرف ان أولادها مهددون بالطرد من المدرسة لتأخرهم في دفع المصروفات. وفي الحوار المتوتر بين فايزة وموظف الحسابات نكتشف حساسية المخرج في انتقائه كلمات الحوار وفي إدارة المشهد وبناء مشاعر الانفعالات كما تعكسها طبقات الصوت صوت فايزة والتباين بين كم الحنق واليأس في تعبيراتها المقتصدة وبلادة الموظف البيروقراطي الذي يرد عليها بخشونة وغلظة في هذا المشهد ننتبه مثلما انتبهنا في مواقع أخري في نفس الفيلم الي حساسية الممثلة بشري واتقانها اللافت في التعبير عن الموقف وعن الحزن الممزوج باليأس لامرأة بسيطة الحالة تعول طفلين مع زوج بامكانيات شحيحة وفي أحد أهم المواقف تكشف فايزة عن أفكارها المشوشة ومفاهيمها المضللة عن الحرام والحلال عندما تحتد علي المرأة الأخري التي تعيش نفس محنتها نيللي كريم وتقف الي جانبها وذلك لأنها امرأة وفنانة مودرن لا تضع الحجاب ومن ثم تعتبر في نظرها محركا لغرائز الشباب. اختزال خاطيء من الخطأ إذن اختزال "876" في كونه فيلما عن التحرش وان كان التحرش موضوعه الرئيسي هو فيلم ايضا عن وضعية المرأة في التفكير الجمعي لمجتمع يعاني من التشوش واختذلت مفاهيمه عن الحرام والحلال وكذلك قيمه ازاء المرأة القيم الشكلية التي تحدد طهارتها ورغم ان البطلة محجبة وحادة جدا وأم مكافحة وموظفة تعاني من بعد المسافة ومن تحرش سائقي التاكسي إلا انها لن تنجو من الانتهاك والايذاء البدني والنفسي حتي صارت حياتها الطبيعية مع زوجها شبه مستحيلة. فايزة لم يرحمها الذكر ذلك لأنه أيضا مفعول به ويعيش حالة مركبة من التحرش فهو محاصر ومهان في كبريائه ورزقه وعيشه ومعرض للانتهاكات بشكل أو بآخر فهو رغم ذكورته التي تجعله قواما علي النساء فقد الجدعنة والرجولة بمعناها القيمي وفقد أسباب الحياة الكريمة وقد حرص المخرج في معالجته للفيلم أن يستعرض سريعا الحالة المعيشية لأحد المتحرشين الذي تكشف انه ابن اسرة مصرية بسيطة تعاني من شظف الحياة وأمه سيدة مصرية قحُ في عرض من يمن عليها بجائزة من جوائز التليفزيون الخيرية! وفي ظل هذه الظروف نجد اننا في حاجة أيضا إلي فيلم يعالج ظاهرة أكثر خطورة وهي التحرش ضد الصبيان "التوربيني وعصابته مثال". البداية الدالة.. وعلم مصر في بداية الفيلم يركز المخرج علي يدين لامرأة تغزل فتاة وفتي من السلك ونري الاثنين في حركة راقصة فاليد التي كانت تصنع هذه الشخوص من السلك لفنانة صبا نيللي وناشطة في مجال حقوق المرأة وأساليب الدفاع عن النفس وتقدم محاضرات في هذا المجال يحضرها نساء عاجزات عن القيام بأي ردود فعل لنظرة المجتمع الذي يري في الافشاء عن حالات التحرش فضيحة وإساءة للمرأة رغم انها ضحية. هذه المرأة نفسها كانت تعرضت للاغتصاب مما جعل زوجها طبيب النساء يتخلي عنها مؤقتا وكانت تعيش حياة ميسورة وحلوة فقدت حلاوتها واستوائها بسبب ما جري لعلاقتها الزوجية فتوقفت عن صنع العرائس وكرست جانبا من حياتها لتحريض المرأة علي الانتقام لنفسها ممن يتحرش بها. أريد أن أتوقف هنا أمام معني آخر مهم ساقه المخرج محمد دياب ضمن السياق.. فقد تعرضت صبا للتحرش بعد مباراة لكرة الششقدم حضرتها مع زوجها وسط آلاف المشجعين ومثل كل الفتيات رسمت علم مصر علي وجهها وكان زوجها أثناء المباراة يدفعها دفعا لمزيد من التشجيع وبصوت أعلي "مصر.. مصر" ووسط اندفاع الجماهير واجهت ما واجهته ممن تحرشوا بها أمام زوجها وحين وصلت الي منزلها نراها علي السرير وقد تشوه وجهها بألوان العلم الذي لم يعد علما وانما مجرد ألوان ساحت بفعل الدموع والمقاومة فحولت الوجه الجميل الي ما يشبه البلياتشو هذا المشهد الذي بدأ بحماس غامر وتشجيع من القلب لمصر وفريقها القومي تحول بسبب الجموح والتطرف والفوضي وسوء الأخلاق والانحرافات النفسية الي حنق وغضب ورغبة في الانتقام والحياة الزوجية التي كانت سعيدة انتهت الي انفصال وعجز عن التسامح أو النسيان. مشهد الزحام والتحرش نفذه المخرج والمصور والمونتير. البطلة الثالثة واسمها نيللي التي لعبتها الممثلة الشابة ناهد السباعي بمهارة لافتة وأداء جميل ومقنع تعمل موظفة في شركة اتصالات تتعرض في البداية لتحرش لفظي من زبون يعاكسها في التليفون وحين ترد عليه بعصبية يعنفها رئيسها كريم كوجاك لأن الزبون حتي وان كان سخيفا ومتحرشاً فهو علي حق "!!" ولكنها فتاة ايجابية جدا وفعالة وفنانة رغم الوظيفة وكذلك خطيبها عمر "عمر السعيد" الذي يقدم نمرا فكاهية ارتجالية علي مسرح ساقية الصاوي ولكنه مضطر أن يتحمل وظيفته في البنك حتي يكتمل مشروع زواجه. نيللي تتعرض لصورة أخري من التحرش العملي وأمام منزلها ولكنها تصر أن تطارد من تحرش بها رغم الصعوبة البالغة في تحقيق ذلك فهو سائق سيارة نقل وقد تعرض لإيذائها بدنيا ولكنها تواجه الأسرة والخطيب وتعنت الصول داخل نقطة البوليس الذي لا يريد أن يصف العدوان علي انه تحرش ولكنها في النهاية تكسب القضية بفضل إرادتها وأيضا دعم خطيبها عمر ورجل البوليس ماجد الكدواني بطلات فيلمه ان يقدم نماذج مقابلة من الرجال. قدم باسم السمرة في دور زوج فايزة أم موظف الأمن البسيط الذي يجاهد من أجل إعالة أطفاله وزوجته ولكنه يعاني من رفض الزوجة التي أصابتها حالة قرف ورفض من الرجال حتي قررت أن تنتقم منهم.. وزوج صبا الذي لعب دوره احمد الفيشاوي وكان مقنعا جدا سواء في مظهره وفي ادائه لملامح الطبيب ابن الناس العاجز عن تقبل ما جري لزوجته بفعل مفاهيم المجتمع المتجذرة عن طهارة المرأة. والنموذج الأكثر إثارة للاعجاب ماجد الكدواني الذي قدم صورة مركبة جدا ومقنعة لرجل بوليس من طراز مختلف وبأداء متوازن وطبقة صوت لا علاقة لها بالصورة النمطية لضابط البوليس وبفهم متأمل لظاهرة مجتمعية يتعاطف هو مع ضحاياها ولكنه منحاز بحكم طبيعة عمله الي القانون فالبطلات من الاناث لجأن الي العنف انتقاما من المتحرشين بهن ومع ذلك لا يستخدم سلطاتة ضد المرأة رغم علمه واعترافها بالجريمة. اعتقد ان هذا الدور يمثل خطا فاصلا في مسيرة الكدواني. ان الصورة التي قدمها محمد دياب لرجل البوليس تدخل ضمن صور موضوعية نادرة لهذه الشخصية التي ظهرت مئات المرات في الأفلام فهو في النهاية ابن هذا المجتمع "بعبله" ويزداد فهمنا لطبيعة هذه الشخصية في سياق فيلم يعالج أزمة اناث في مجتمع مريض حين يكتشف انه نفسه اصبح أبا لطفلة أنثي وضعتها أمها ثم رحلت.. اذن هو بدوره أصبح ضالعا في هذه القضية. من مزايا الفيلم انه اضفي جوا انسانيا واقعيا علي الحالات الاجتماعية المختلفة لكل ابطاله وبطلاته ونسج حبكة مقنعة الي حد كبير لجمع هذه الحالات المتباينة من حيث السلوك والطبقة الاجتماعية والمستوي المادي في إطار فني ممتع ومسل وآسر سواء بالنسبة لأداء البطلات وقد أبدعن الثلاثة وبشري علي الأخص بالتزامها المخلص للدور بدت مدهشة تستحق منتهي الاحترام والاعجاب. محمد دياب وفريقه من الفنانين والفنيين قدموا عملا ممتازا وفريدا لأنه حول الفيلم الي رسالة وسلاح ودور فعال في هز المجتمع وتنبيهه الي سلبياته وإعادة النظر في مفاهيمه.